للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فَرَحَهُمْ بِهِ. وَالثَّانِي: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الْيَهُودُ أُعْطُوا التَّوْرَاةَ، وَالنَّصَارَى أُعْطُوا الْإِنْجِيلَ، يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَفْرَحُونَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ فَيُقَالُ إِنَّ قَوْلُهُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ جَوَازِ إِدْخَالِ لَفْظَتَيِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ كَلِمَةُ «مَا» لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِدْخَالُ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا وَإِدْخَالُ لَفْظِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا جَمَعَ كَلَّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ فِي أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُ فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ وَهَذَا الْكَلَامُ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا وَرَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَفِيهِ فَوَائِدُ: أَوَّلُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ وَمَعْنَاهُ إِنِّي مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ وَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ إِلَّا بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُكَلَّفٌ بِذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُكَلَّفٌ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ/ يُبْطِلُ قَوْلَ نُفَاةِ التَّكْلِيفِ، وَيُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ الْمَحْضِ.

وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا أُشْرِكَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْبُودَ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوِ الْكَوَاكِبُ أَوِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةُ أَوْ يَزْدَانُ وَأَهْرِمَنُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمَجُوسُ أَوِ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ عَلَى مَا يَقُولُهُ الثَّنَوِيَّةُ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ إِلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نُبُوَّتِهِ. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ مَآبِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا عَرَفَ أَنَّهَا مُحْتَوِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدين.

[[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]]

وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ إِنْزَالَهُ حُكْمًا عربيا بما أنزل إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ تَعُودُ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ:

يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَعْنِي الْقُرْآنَ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: حِكْمَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُتَرْجَمَةٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ.

الثَّانِي: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ، فَالحكم لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ جُعِلَ نَفْسَ الحكم عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الْخَلْقِ بِوُجُوبِ قَبُولِهِ جَعَلَهُ حُكْمًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: حُكْماً عَرَبِيًّا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ حُكْمًا عَرَبِيًّا.

<<  <  ج: ص:  >  >>