للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِاحْتِيَاجِ ذَلِكَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا:

أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ وَالْجَهْلِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِلضَّلَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ:

وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: (يَقْنِطُ) بِكَسْرِ النُّونِ وَلَا تَقْنِطُوا كَذَلِكَ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَهُمَا لُغَتَانِ: قَنَطَ يَقْنِطُ، نَحْوَ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَقَنِطَ يَقْنَطُ نَحْوَ عَلِمَ يَعْلَمُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: قَنَطَ يَقْنُطُ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنِطُ بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشُّورَى: ٢٨] وَحِكَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَنَطَ بِفَتْحِ النُّونِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ مِنْ فَعَلَ يَجِيءُ على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق وَلَا يَجِيءُ مُضَارِعُ فَعَلَ عَلَى يَفْعُلُ. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَما خَطْبُكُمْ سُؤَالٌ عَمَّا لِأَجْلِهِ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْخَطْبُ وَالشَّأْنُ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ: إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْخَطْبِ أَدَلُّ عَلَى عِظَمِ الْحَالِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ الذَّكَرِ الْعَلِيمِ فَكَيْفَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ مَا الْأَمْرُ الَّذِي تَوَجَّهْتُمْ لَهُ سِوَى الْبُشْرَى. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ إِيصَالَ الْبِشَارَةِ لَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَافِيًا، فَلَمَّا رَأَى جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلِمَ أَنَّ لَهُمْ غَرَضًا آخَرَ سِوَى إِيصَالِ الْبِشَارَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. الثَّالِثُ:

يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فِي مَعْرِضِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَافَ قَالُوا لَهُ: لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: ٥٣] . / وَلَوْ كَانَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَجِيءِ هُوَ ذِكْرَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ لَكَانُوا فِي أَوَّلِ مَا دَخَلُوا عَلَيْهِ ذَكَرُوا تِلْكَ الْبِشَارَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَجِيئُهُمْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ بَلْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ فَلَا جَرَمَ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْغَرَضِ فَقَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.

ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عن الملائكة أنهم قَالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِعِلْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أُرْسِلُوا إِلَى الْمُجْرِمِينَ كَانَ ذَلِكَ لِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ:

إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ إِهْلَاكُ الْقَوْمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>