للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قوله تَعَالَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ فَالْمُرَادُ مِنْ آلِ لُوطٍ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ؟

قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِثْنَاءً مِنْ (قَوْمٍ) كَانَ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ مَا كَانُوا مُجْرِمِينَ، فَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ فِي (مُجْرِمِينَ) كَانَ مُتَّصِلًا كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى قَوْمٍ قَدْ أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ وَحْدَهُمْ كَمَا قَالَ:

فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: ٣٦] ثم قال صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الوجهيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ يَخْرُجُونَ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَلَائِكَةَ أُرْسِلُوا إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً وَمَا أُرْسِلُوا إِلَى آلِ لُوطٍ أَصْلًا، وَأَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَالْمَلَائِكَةُ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِيُهْلِكُوا هَؤُلَاءِ وَيُنَجُّوا هَؤُلَاءِ، وَأما قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُنْجُوهُمْ خَفِيفَةً، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً وَهُمَا لُغَتَانِ.

أما قوله تَعَالَى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ:

لَمُنَجُّوهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الحكم فِيهِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: الْمُطَلِّقُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَمَا إِذَا قَالَ: الْمُقِرُّ لِفُلَانٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أُرْسِلْنا أَوْ بِقَوْلِهِ مُجْرِمِينَ وَقَوْلُهُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْنَاءٍ.

وَأما قوله: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ غَيْرِهِ. يُقَالُ: قَدِّرْ هَذَا الشَّيْءَ بِهَذَا أَيِ اجْعَلْهُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَقْوَاتَ أَيْ جَعَلَهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، ثُمَّ يُفَسَّرُ التَّقْدِيرُ بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ كَذَا، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ أَيْ جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَكْفِي/ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى:

قَدَّرْنا كَتَبْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: دَبَّرْنَا. وَقِيلَ: قَضَيْنَا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو بكر عن عاصم قَدَّرْنا بتخفيف الدال هاهنا وَفِي النَّمْلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَرْتُهُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٠] خفيفا، وقراءة الكسائي: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ثم قال: وَالْمُشَدَّدَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فُصِّلَتْ: ١٠] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢] .

المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَسْنَدَ الْمَلَائِكَةُ فِعْلَ التَّقْدِيرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِمَ لَمْ يَقُولُوا: قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى؟

وَالْجَوَابُ: إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ خَاصَّةُ الْمَلِكِ دَبَّرْنَا كَذَا وَأَمَرْنَا بِكَذَا وَالْمُدَبِّرُ وَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ لَا هُمْ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ مَا لَهُمْ من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هاهنا والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>