للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، لِيَقْتَدِيَ النَّاسُ بِكُمَا فِي ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَوْضِعَ الْبَيْتِ قَبْلَ الْبِنَاءِ كَانَ يُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ وَالْأَقْذَارُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِإِزَالَةِ تِلْكَ الْقَاذُورَاتِ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ هُنَاكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ مَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْجُودًا فَتَطْهِيرُ تِلْكَ الْعَرْصَةِ لَا يَكُونُ تَطْهِيرًا لِلْبَيْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَيْتًا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ مَآلَهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْتًا وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَكْفُ مَصْدَرُ عَكُفَ يعكف بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا عَكْفًا إِذَا لَزِمَ الشَّيْءَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاكِفٌ، وَقِيلَ: إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى فِرَقٍ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطَّائِفُونَ غَيْرَ الْعَاكِفِينَ وَالْعَاكِفُونَ غَيْرَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ لِتَصِحَّ فَائِدَةُ الْعَطْفِ، فَالْمُرَادُ بِالطَّائِفِينَ: مَنْ يَقْصِدُ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَيَطُوفُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِينَ: مَنْ يُقِيمُ هُنَاكَ وَيُجَاوِرُ، وَالْمُرَادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: مَنْ يُصَلِّي هُنَاكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ:

أَنَّهُ إِذَا كَانَ طَائِفًا فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ، وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الطَّائِفِينَ بِالْغُرَبَاءِ فَحِينَئِذٍ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَصَّهُمْ بِالطَّوَافِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ بِهِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ. وَثَانِيهَا:

تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ. وَثَالِثُهَا: تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا إِذْ لَمْ تُفَرِّقِ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ، وَكَمَا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ، كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إِلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، قُلْنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ إِلَى الْبَيْتِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا وُقُوعَ الطَّوَافِ خَارِجَ الْبَيْتِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ أَنْ/ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الْحَجِّ: ٢٩] وَأَيْضًا الْمُرَادُ لَوْ كَانَ التَّوَجُّهَ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت وَالْغَائِبُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٤] وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ بَلْ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُتَوَجِّهَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى كُلِّ الْمَسْجِدِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَهُوَ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِلطَّائِفِينَ يَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ، أَوْ كَانَ مِنَ المندوبات.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]]

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)