للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ بِقَوْلِهِ: لِمَ فَعَلَ الْفَاعِلُ فَلَا يُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِعْلَامٍ، بَلْ يُسْأَلُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ الْجَمْعِ.

وَالثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ عَدَمِ السُّؤَالِ؟ نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فَائِدَتُهُ التَّوْبِيخُ لَهُمْ كقوله تعالى:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: ٤٠، ٤١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] وَعَلَى الثَّانِي بَيَانُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ، فَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ أَحْسَنَ، لِأَنَّ فِيهَا حِينَئِذٍ بَيَانَ أَنْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرحمن: ٣٣] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا مَانِعَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: ٣٥] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا فِدَاءَ لَهُمْ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يُسْأَلُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، بَيَانُ أَنْ لَا شَفِيعَ لَهُمْ وَلَا رَاحِمَ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا مُؤَخَّرٌ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ [الرحمن: ٣١] بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُؤَخَّرُ بِقَدْرِ مَا يُسْأَلُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: لا تَنْفُذُونَ [الرحمن: ٣٣] وَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يُخَلِّصُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ بَيَّنَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُذْنِبُ:

رُبَّمَا أَنْجُو فِي ظِلِّ خُمُولٍ وَاشْتِبَاهِ حَالٍ، فَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَحَدٌ مِنَ الْمُذْنِبِينَ بِخِلَافِ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الشِّرْذِمَةَ الْقَلِيلَةَ رُبَّمَا تَنْجُو من العذاب العام بسبب خمولهم. وقال تعالى:

[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤١ الى ٤٢]

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢)

اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ، ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، إِذْ قَوْلُهُ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ كَالتَّفْسِيرِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ غَيْرُهُ كَيْفَ قَالَ: يُعْرَفُ وَيُؤْخَذُ وَعَلَى قَوْلِنَا: لَا يُسْأَلُ سُؤَالَ حَطٍّ وَعَفْوٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السِّيمَا كَالضِّيزَى وَأَصْلُهُ سَوْمَى مِنَ السَّوْمَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: كَيٌّ عَلَى جِبَاهِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ [التَّوْبَةِ: ٣٥] ثَانِيهَا: سَوَادٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: ٦٠] ثَالِثُهَا: غَبَرَةٌ وَقَتَرَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ (يُؤْخَذُ) مَعَ أَنَّ (الْمُجْرِمِينَ) جَمْعٌ، وَهُمُ الْمَأْخُوذُونَ؟ نَقُولُ فِيهِ/ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يُؤْخَذَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالنَّواصِي كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ذُهِبَ بِزَيْدٍ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فَيُؤْخَذُونَ بِالنَّوَاصِي، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عُدِّيَ الْأَخْذُ بِالْبَاءِ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيدِ: ١٥] وَقَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ [طه: ٢١] نَقُولُ: الْأَخْذُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنْتَ، وَبِالْبَاءِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي

[طه: ٩٤] لَكِنْ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَدْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ تَوَجَّهَ الْفِعْلُ نَحْوَهُ فَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ غَيْرَ الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ حِسًّا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَكَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَأْخُوذُ، وَكَأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَذَكَرَ الْحَرْفَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ فِي الْعَصَا وَقَالَ تَعَالَى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: ١٠٢] وأَخَذَ الْأَلْواحَ [الأعراف: ١٥٤]

<<  <  ج: ص:  >  >>