للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ لِيُنْذِرَ بِالْيَاءِ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْمُنْذِرَ، لِأَنَّ فِيهِ إِنْذَارًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذَرُوا بِهِ أَيْ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ وَقَالَ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ فَلَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ: فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا وَلِتُنْذِرَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ وَالْمَوْصُوفَ بِالْإِنْذَارِ هُوَ. قَالَ تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وقال: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ جَارٍ مَجْرَى السَّبَبِ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ السَّبَبِيَّةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ هُوَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَظِّمُ رَغْبَتَهُ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، وَرَهْبَتَهُ عَنْ حُلُولِ الْعِقَابِ، وَيُبَالِغُ فِي النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَيَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِثْلَ مَا فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِصِحَّةِ الْآخِرَةِ أَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ، وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْكِ رئاسة الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لَيْسَ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي الثَّوَابِ، وَالرَّهْبَةَ عَنِ الْعِقَابِ. وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمَّا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، امْتَنَعَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْحَسَدِ وَتَرْكُ الرِّيَاسَةِ، فَلَا جَرَمَ يَبْعُدُ قَبُولُهُمْ لِهَذَا الدِّينِ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ كَمَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه وَأَعْظَمُهَا خَطَرًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] أَيْ صَلَاتَكُمْ، وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ.

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ»

فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الصَّلَاةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَا جَرَمَ خَصَّهَا اللَّه بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ وَعِيدَ مَنْ ذَكَرَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّه كَذِبًا.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ، وَفِي الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ صَاحِبِ صَنْعَاءَ، فإنهما كانا

<<  <  ج: ص:  >  >>