وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيفِ إِلَى اللَّهِ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ، فَإِنْ وَجَدُوا قَوْمًا مِنَ الْأَغْمَارِ وَالْبُلْهِ الْجَاهِلِينَ بِالتَّوْرَاةِ نَسَبُوا ذَلِكَ الْمُحَرَّفَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَإِنْ وَجَدُوا قوما عقلاء أَذْكِيَاءَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَا: لَوْ كَانَ لَيُّ اللِّسَانِ بِالتَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَصَدَقَ الْيَهُودُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَزِمَ الْكَذِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، وَاللَّهُ يَنْفِي عَنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَفَى خِزْيًا لِقَوْمٍ يَجْعَلُونَ الْيَهُودَ أَوْلَى بِالصِّدْقِ مِنَ اللَّهِ قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَرْقٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْفَرْقُ لَمْ يَحْسُنِ الْعَطْفُ، وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَ الْمَخْلُوقِ مِنْ عِنْدِ الْخَالِقِ أَوْكَدَ مِنْ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ عِنْدِ الْآمِرِ بِهِ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَقْوَى أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَفْيٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ لَا بِالْخَلْقِ وَلَا بِالْحُكْمِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى ثَابِتًا بِقَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَمَّا قَالَ: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثَبَتَ نَفْيُ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَ التَّكْرَارُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْكَعْبِيُّ فَجَوَابُهُ، أَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْطَبِقًا عَلَى السُّؤَالِ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا فِي ادِّعَاءِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ وَفَعَلُوهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ كَانُوا/ يَدَّعُونَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ وَنَازِلٌ فِي كِتَابِهِ.
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَائِدًا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَظْهَرُ فَسَادُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ الْكَذِبَ مَعَ الْعِلْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّحْرِيفِ تَغْيِيرَ أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ، وَإِعْرَابَ أَلْفَاظِهَا، فَالْمُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا طَائِفَةً يَسِيرَةً يَجُوزُ التَّوَاطُؤُ مِنْهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَشْوِيشَ دَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ لَمْ يَبْعُدْ إِطْبَاقُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ عَادَةَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّفُوهُ مَا زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِعِبَادَتِهِ فَلِهَذَا قَالَ: مَا كانَ لِبَشَرٍ الْآيَةَ، وَهَاهُنَا مسائل: