للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّنَاقُضِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِيهِ بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ التَّذَكُّرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاتِّقَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعَرَفَهُ وَوَقَفَ عَلَى فَحْوَاهُ وَأَحَاطَ بِمَعْنَاهُ، حَصَلَ الِاتِّقَاءُ وَالِاحْتِرَازُ والله أعلم.

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي شَرْحِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَثَلِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وَقُبْحِ طَرِيقَتِهِمْ فَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُتَشَاكِسُونَ الْمُخْتَلِفُونَ الْعَسِرُونَ يُقَالُ شَكِسَ يَشْكَسُ شُكُوسًا وَشَكَسًا إِذَا عَسُرَ، وَهُوَ رَجُلٌ شَكِسٌ، أَيْ عَسِرٌ وَتَشَاكَسَ إِذَا تَعَاسَرَ، قَالَ اللَّيْثُ: التَّشَاكُسُ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيُقَالُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُتَشَاكِسَانِ، أَيْ أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ إِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا ذَهَبَ الْآخَرُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ صِلَةُ شُرَكَاءَ كَمَا تَقُولُ اشْتَرَكُوا فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو سَالِمًا بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ سَلِمَ فَهُوَ سَالِمٌ وَالْبَاقُونَ سَلَمًا بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الْعَيْنِ أَمَّا مَنْ قَرَأَ سَالِمًا فَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ تَقْدِيرُ مُسَلَّمٍ فَهُوَ سَالِمٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الْقِرَاءَاتِ فَهِيَ مَصَادِرُ سَلِمَ وَالْمَعْنَى ذَا سَلَامَةٍ، وَقَوْلُهُ: لِرَجُلٍ أَيْ ذَا خُلُوصٍ لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَلِمَتْ لَهُ الضَّيْعَةُ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ وَهُنَاكَ رَجُلٌ سَالِمٌ لِرَجُلٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اضْرِبْ لِقَوْمِكَ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ وَتَنَازُعٌ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ، فَكُلَّمَا أَرْضَى أَحَدَهُمْ غَضِبَ الْبَاقُونَ، وَإِذَا احْتَاجَ فِي مُهِمٍّ إِلَيْهِمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَى الْآخَرِ، فَهُوَ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا لَا يَعْرِفُ أَيُّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَطْلُبَ رِضَاهُ، وَأَيَّهُمْ يُعِينُهُ فِي حَاجَاتِهِ، فَهُوَ بِهَذَا السَّبَبِ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ وَتَعَبٍ مُقِيمٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ لَهُ مَخْدُومٌ وَاحِدٌ يَخْدِمُهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ الْمَخْدُومُ يُعِينُهُ عَلَى مُهِمَّاتِهِ، فَأَيُّ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَحْسَنُ حَالًا وَأَحْمَدُ شَأْنًا، وَالْمُرَادُ تَمْثِيلُ حَالِ مَنْ يُثْبِتُ آلِهَةً شَتَّى، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْآلِهَةَ تَكُونُ مُتَنَازِعَةً مُتَغَالِبَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] وَقَالَ: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمُشْرِكُ مُتَحَيِّرًا ضَالًّا، لَا يَدْرِي أَيَّ هَؤُلَاءِ الْآلِهَةِ يَعْبُدُ وَعَلَى رُبُوبِيَّةِ أَيِّهِمْ يَعْتَمِدُ، وَمِمَّنْ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، وَمِمَّنْ يَلْتَمِسُ رِفْقَهُ، فَهَمُّهُ شِفَاعٌ، وَقَلْبُهُ أَوْزَاعٌ. أَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتْ إِلَّا إِلَهًا واحدا

<<  <  ج: ص:  >  >>