السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ قِسْنَا إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حُجَّةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ حُجَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْقِيَاسَاتِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقيس، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؟ قُلْنَا: لَا نُثْبِتُ سَائِرَ الْقِيَاسَاتِ بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ وَجْهُ الْتَمَسُّكِ هُوَ أَنْ نَقُولَ: لَوْلَا أَنَّهُ تَمَهَّدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ ظَنًّا يَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ احتمال الفرق المرجوح قائم هاهنا فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا الْأَخْذَ الْوَبِيلَ بِخُصُوصِيَّةِ حَالَةِ الْعِصْيَانِ فِي تِلْكَ الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة هاهنا، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل هاهنا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ جَزَمَ/ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ فَهَذَا الْجَزْمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَسْبُوقًا بِتَقْرِيرِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَنَاطِ الظَّاهِرِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الْفَرْقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي تِلْكَ التَّسْوِيَةِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِنَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ ازْدَرَوْا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاسْتَخَفُّوا بِهِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيهِمْ، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ ازْدَرَى مُوسَى لِأَنَّهُ رَبَّاهُ وَوُلِدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: ١٨] .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّسُولِ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ الثَّانِي: الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، وَمُبَيِّنًا لِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِشَهَادَتِهِ يُبَيِّنُ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَّنَ الْحَقَّ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أَيْ عُدُولًا خِيَارًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَعْنَى الْوَبِيلِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْوَبِيلُ: الثَّقِيلُ الْغَلِيظُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: صَارَ هَذَا وَبَالًا عَلَيْهِمْ، أَيْ أَفْضَى بِهِ إِلَى غَايَةِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْمَطَرِ الْعَظِيمِ: وَابِلٌ، وَالْوَبِيلُ: الْعَصَا الضَّخْمَةُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْوَبِيلُ الَّذِي لَا يُسْتَمْرَأُ، وَمَاءٌ وَبِيلٌ وَخِيمٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَرِيءٍ وَكَلَأٌ مُسْتَوْبَلٌ، إِذَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى مَكْرُوهٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا يَعْنِي الغرق، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى تَخْوِيفِهِمْ بِالْقِيَامَةِ مرة أخرى فقال تعالى:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute