كَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لَعَلَّ هَذِهِ الترجي وَاللَّهُ تَعَالَى مُحَالٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَنُذِيقَنَّهُمْ إذاقة الراجين كقوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: ١٤] يَعْنِي تَرَكْنَاكُمْ كَمَا يُتْرَكُ النَّاسِي حَيْثُ لَا يلتفت إليه أصلا، فكذلك هاهنا نُذِيقُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُ بِالرَّاجِي مِنَ التَّدْرِيجِ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ إِذَاقَةً يَقُولُ الْقَائِلُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِسَبَبِهِ، وَنَزِيدُ وَجْهًا آخَرَ مِنْ عِنْدِنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَتْلُوهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ اتَّجَرَ لِيَرْبَحَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِعْلِ نَظَرًا إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْعِلْمُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَفْعَلُ كَذَا رَجَاءَ كَذَا، كَمَا يُقَالُ يَتَّجِرُ رَجَاءَ أَنْ يَرْبَحَ، وَإِنْ حَصَلَ لِلتَّاجِرِ جَزْمٌ بِالرِّبْحِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا يَرْجُو لِمَا أَنَّ الْجَزْمَ غَيْرُ حَاصِلٍ نَظَرًا إِلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ حَاصِلًا نَظَرًا إِلَى الْفِعْلِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَرْجُو وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجَزْمُ يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ حَزَّ رَقَبَةَ عَدُوِّهِ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ، لَا يَصِحُّ لِحُصُولِهِ الْجَزْمُ بِالْمَوْتِ عَقِيبَ الْحَزِّ نَظَرًا إِلَيْهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَمُوتَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُصَحِّحُ قَوْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْمَغْفِرَةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَزْمُ حَاصِلًا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الطمع وكذلك قوله تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ الْجَزْمُ، فَإِنَّ مِنَ التَّعْذِيبِ لَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ لُزُومًا بَيِّنًا فَصَحَّ قَوْلُنَا يَرْجُو وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا بِمَا يَكُونُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَعْلُومًا فَأَوْهَمَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِطْلَاقُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّرَجِّي يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ حَقِيقَةُ التَّرَجِّي فِي حَقِّهِ عَلَى ما ذكرنا من المعنى/ ثم قال تعالى:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها يَعْنِي لَنُذِيقَنَّهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ فَيَكُونُونَ قَدْ ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ النِّعَمِ أَوَّلًا وَالنِّقَمِ ثَانِيًا وَلَمْ يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد، لِأَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ ظَالِمٌ فَإِنَّ اللَّهَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَنِيرُ الْبَاطِنُ إِلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: ٥٣] أي دليلك الله لا تحتاج تأثير الْبَاطِنِ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ اللَّهُ فَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ، كَانَ فِيهَا نَفْعٌ أَوْ ضُرٌّ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: ٥٣] فَإِنْ لَمْ يكفهم ذلك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute