للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُدُوثِ أَنْقَصُ حَالًا وَأَقَلُّ فِطْنَةً مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ كِبَرِهِ يَقْوَى عَقْلُهُ وَيَعْظُمُ فَهْمُهُ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى مساحة السموات وَالْأَرْضِ وَيَقْوَى عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعَلَى مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ وَالْفَلَكِيَّاتِ وَالْعُنْصُرِيَّاتِ وَيَقْوَى عَلَى إِيرَادِ الشُّبُهَاتِ الْقَوِيَّةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُصُومَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ فَانْتِقَالُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ تِلْكَ البلاد الْمُفْرِطَةِ إِلَى هَذِهِ الْكَيَاسَةِ الْمُفْرِطَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ/ بِتَدْبِيرِ إِلَهٍ مُخْتَارٍ حَكِيمٍ يَنْقُلُ الْأَرْوَاحَ مِنْ نُقْصَانِهَا إِلَى كَمَالَاتِهَا وَمِنْ جَهَالَاتِهَا إِلَى مَعَارِفِهَا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ أَمْكَنَكَ التَّنْبِيهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ:

المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ بِوَاسِطَةِ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢، ١٣] إِلَّا أَنَّهُ تعالى اختصر هاهنا لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْصَاءَ مَذْكُورٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِيهِ بَحْثَانِ:

البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَصِيمُ بِمَعْنَى الْمُخَاصِمِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: خَصِيمُكَ الَّذِي يُخَاصِمُكَ وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مَعْرُوفٌ كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، وَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ، وَالْأَكِيلِ وَالشَرِيبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصِيمٌ فَاعِلًا مِنْ خَصَمَ يَخْصِمُ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: ٤٩] .

البحث الثَّانِي: لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَإِذَا هُوَ مُنْطَبِقٌ مُجَادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُنَازِعٌ لِلْخُصُومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً قَذِرَةً، وَجَمَادًا لَا حِسَّ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وَالثَّانِي: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ لِرَبِّهِ، مُنْكِرٌ عَلَى خالقه، قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَصْفُ الْإِنْسَانِ بِالْإِفْرَاطِ فِي الْوَقَاحَةِ وَالْجَهْلِ، وَالتَّمَادِي فِي كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَوْفَقُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْكُورَةٌ لِتَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا لِتَقْرِيرِ وَقَاحَةِ النَّاسِ وَتَمَادِيهِمْ في الكفر والكفران.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥ الى ٧]

وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بَعْدَ الْإِنْسَانِ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْقُوَى الشَّرِيفَةِ. وَهِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، ثُمَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ قِسْمَانِ:

مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ أَشْرَفَ الْحَيَوَانَاتِ وَجَبَ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَكُونُ انْتِفَاعُ الْإِنْسَانِ بِهِ أَكْمَلَ. وَأَكْثَرَ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: وَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي ضَرُورِيَّاتِ مَعِيشَتِهِ مِثْلَ الْأَكْلِ وَاللِّبْسِ أَوْ لَا يَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>