إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَطِبَّاءِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ مُخْتَلِفُ الْأَجْزَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، فَإِنَّ الْغِذَاءَ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْمَعِدَةِ هَضْمٌ أَوَّلٌ وَفِي الْكَبِدِ هَضْمٌ ثَانٍ. وَفِي الْعُرُوقِ هَضْمٌ ثَالِثٌ. وَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى جَوَاهِرِ الْأَعْضَاءِ هَضْمٌ رَابِعٌ. فَفِي هَذَا الْوَقْتِ وَصَلَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْغِذَاءِ إِلَى الْعَظْمِ وَظَهَرَ فِيهِ أَثَرٌ مِنَ الطَّبِيعَةِ العظيمة، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اللَّحْمِ وَالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ عَلَى الْبَدَنِ عِنْدَ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ يَحْصُلُ ذَوَبَانٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ النُّطْفَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ النُّطْفَةُ جِسْمًا مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ وَالطَّبَائِعِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّطْفَةُ فِي نَفْسِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ جِسْمًا مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، أَوْ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِيَ لِتَوَلُّدِ الْبَدَنِ مِنْهَا هُوَ الطَّبِيعَةُ الْحَاصِلَةُ فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ وَدَمِ الطَّمْثِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْثِيرُهَا بِالذَّاتِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي مَادَّةٍ مُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا هُوَ الْكُرَةُ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ عَوَّلُوا فِي قَوْلِهِمُ الْبَسَائِطُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَشْكَالُهَا الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْكُرَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنَ النُّطْفَةِ هُوَ الطَّبِيعَةُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهَا الْكُرَةَ. وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُدُوثِ الْأَبْدَانِ الْحَيَوَانِيَّةِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةُ، بَلْ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ يَخْلُقُ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: النُّطْفَةُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَنَقُولُ:
بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَلُّدُ الْبَدَنِ مِنْهَا بِتَدْبِيرِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ حَكِيمٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّطْفَةَ رُطُوبَةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْأَجْزَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا لَا تَحْفَظُ الْوَضْعَ وَالنِّسْبَةَ، فَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الدِّمَاغِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ فِي الْأَسْفَلِ، وَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْقَلْبِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفَوْقِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا دَائِمًا وَلَا أَكْثَرِيًّا، وَحَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْخَاصِّ لَيْسَ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ النُّطْفَةَ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ تَحْلِيلُ تَرْكِيبِهَا إِلَى أَجْزَاءٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ جِسْمًا بَسِيطًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَبِّرُ لَهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْبَسَائِطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهُ هُوَ الْكُرَةُ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ عَلَى شَكْلِ كُرَاتٍ مَضْمُومَةٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ هِيَ الطَّبَائِعُ وَلَا تَأْثِيرَاتُ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّأْثِيرَاتِ مُتَشَابِهَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، هَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ بِأَحْوَالِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَتَقْرِيرِهِ: أَنَّ النُّفُوسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ أَقَلُّ فَهْمًا وَذَكَاءً وَفِطْنَةً مِنْ نُفُوسِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الدَّجَاجَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ قِشْرِ الْبَيْضَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ فَيَهْرَبُ مِنَ الْهِرَّةِ وَيَلْتَجِئُ إِلَى الْأُمِّ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَالْغِذَاءِ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ وَأَمَّا وَلَدُ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ حَالَ انْفِصَالِهِ عَنْ بَطْنِ الْأُمِّ، لَا يُمَيِّزُ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ وَلَا بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute