ذَلِكَ وَلَا نُشَفَّعُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحَدَهُمَا: كَوْنُ المشفوع له مؤمناو الثاني: حُصُولُ الْإِذْنِ فِي الشَّفَاعَةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَإِقْدَامُنَا عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ مُمْتَنِعٌ لَكِنِ ادْعُوا أَنْتُمْ، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فَادْعُوا لِرَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْبَةِ، فَإِنَّ الْمَلَكَ الْمُقَرَّبَ إِذَا لَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ فَكَيْفَ يُسْمَعُ دُعَاءُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ يُصَرِّحُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِدُعَائِهِمْ فَيَقُولُونَ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَاجَةَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَأَذَّى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ بِسَبَبِ جُرْمِهِمْ، وَإِذَا كَانَ التَّأَذِّي مُحَالًا عَلَيْهِ كَانَتْ شَهْوَةُ الِانْتِقَامِ مُمْتَنِعَةً فِي حَقِّهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِيصَالُ هَذِهِ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ إِلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ إِضْرَارٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ، فَهُوَ إِضْرَارٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمُنْتَفِعَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ أَنْ يُبْقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيلَامِ أَبَدَ الْآبَادِ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، / مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْحَمَ حَاجَتَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ دُعَاءَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقصى النَّاسِ قَلْبًا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا التَّعْذِيبِ بِبَعْضِ عَبِيدِهِ لَدَعَاهُ كَرَمُهُ وَرَحْمَتُهُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا السَّيِّدَ فِي مَحَلِّ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَالْحَاجَةِ، فَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْإِضْرَارُ؟ قُلْنَا أَفْعَالُ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ ولا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] فَلَمَّا جَاءَ الْحُكْمُ الْحَقُّ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْحَقِّ وَجَبَ الْإِقْرَارُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ وِقَايَةَ اللَّهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَكْرِ فِرْعَوْنَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَالثَّانِي: لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ مَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ التَّخَاصُمِ وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الْفَزَعِ إِلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ يَقُولُونَ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِرٍ: ٥٠] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِرٍ: ٤] وَامْتَدَّ الْكَلَامُ فِي الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ وَعَلَى أَنَّ الْمُحِقِّينَ أَبَدًا كَانُوا مَشْغُولِينَ بِدَفْعِ كَيْدِ الْمُبْطِلِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْبِيرًا لَهُ عَلَى تَحَمُّلِ أَذَى قَوْمِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْمَطْلُوبِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى وَعَدَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ/ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِأَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَيَنْصُرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُمْ نُصْرَةً يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الْمُحِقِّينَ تَحْصُلُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: النُّصْرَةُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحُجَّةَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ عَامَّةٌ لِلْمُحِقِّينَ أَجْمَعَ، وَنِعْمَ مَا سَمَّى اللَّهُ هَذِهِ النُّصْرَةَ سُلْطَانًا لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute