للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٠]]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

[الحكم الخامس]

[في قَوْلُهُ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُعَايَنَةَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ عَاجِزًا عَنِ الْإِيصَاءِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ حُضُورُ أَمَارَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ فِيمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَارَبَ الْبَلَدَ إِنَّهُ قَدْ وَصَلَ وَالثَّانِي: قَوْلُ الْأَصَمِّ إِنَّ الْمُرَادَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بِأَنْ تَقُولُوا: إِذَا حَضَرَنَا الْمَوْتُ فَافْعَلُوا كَذَا قَالَ الْقَاضِي:

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوصِيَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي وَصِيَّتِهِ الْمَوْتَ جَازَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ الْمَالُ هاهنا وَالْخَيْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ/ كَقَوْلِهِ:

وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [الْعَادِيَاتِ: ٨] مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وإذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، فَالْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْكُلِّ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيمَا إِذَا تَرَكَ خَيْرًا، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ خَيْرٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: ٢٤] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْخَيْرَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْمَالُ الْقَلِيلُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ خَيْرًا.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ فِيمَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ قَلَّ أَمْ كَثُرَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاءِ: ٧] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ خَيْرًا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو مَالٍ، فَإِنَّمَا يُرَادُ تَعْظِيمُ مَالِهِ وَمُجَاوَزَتُهُ حَدَّ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَالِ قَدْ يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ:

فُلَانٌ فِي نِعْمَةٍ، وَفِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ. فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَكْثِيرُ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا بَابٌ مِنَ الْمَجَازِ مَشْهُورٌ وَهُوَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنِ الشَّيْءِ لِنَقْصِهِ، كَمَا

قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ»

وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ من باب شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ»

وَنَحْوِ هَذَا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مَا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا، لَمَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ:

إِنْ تَرَكَ خَيْراً كَلَامًا مُفِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مَا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَمُوتُ عُرْيَانًا وَلَا يَبْقَى مَعَهُ كسرة خبر، وَلَا قَدْرٌ مِنَ الْكِرْبَاسِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أن المراد هاهنا مِنَ الْخَيْرِ الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَذَاكَ الْمَالُ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَحْدُودٍ أَمْ لَا فيه قولان: