للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَبْدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ، وكل واحد منهما مشتر، فكذا هاهنا وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ وَإِلَى حَمْلِ لَفْظِ الشِّرَاءِ عَلَى الْبَيْعِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا كُلُّ مَشَقَّةٍ يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ فِي طَلَبِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجَاهِدُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْبَاذِلُ مُهْجَتَهُ الصَّابِرُ عَلَى الْقَتْلِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو عَمَّارٍ وَأُمُّهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْآبِقُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُشْتَرِي نَفْسَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَالِهِ كَمَا فَعَلَ صُهَيْبٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُظْهِرُ الدِّينَ وَالْحَقَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعَثَ جَيْشًا فَحَاصَرُوا قَصْرًا فَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبْتُمْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا فُلَانٍ، وَقَرَأَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ حَتَّى يَدْخُلَ بِسَبَبِهِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ فَهُوَ غَيْرُ داخل فيه بل بعد ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ نَحْوَ مَا إِذَا خَافَ التَّلَفَ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَفَعَلَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُمْ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ الْمُرَّاقِ مِنَ الدِّينِ وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمَّا رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَاتَلُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرَوْا أَنْفُسَهُمْ غَضَبًا لِلَّهِ وَجِهَادًا في سبيله.

المسألة الثالثة: يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لابتغاء مرضاة الله، ويَشْرِي بمعنى يشتري.

أما قوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدَّائِمَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إِبْقَاءً عَلَى النَّفْسِ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إِذَا تَابَ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ أَسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ الْعِقَابِ. / وَأَعْطَاهُ الثَّوَابَ الدَّائِمَ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّ النَّفْسَ لَهُ وَالْمَالَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنْهُ ورحمة وإحسانا.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٨]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي شرائعه، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ السِّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الْأَنْفَالِ: ٦١] وَقَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّدٍ: ٣٥] وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رواية أبي بكر بن عياش السِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْكُلِّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ، وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ السِّينِ فِي هَذِهِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا وَبِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَنْفَالِ، وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، مِثْلَ: رَطْلٍ وَرِطْلٍ وَجَسْرٍ وَجِسْرٍ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِفَتْحِ السين واللام.