للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٣]]

وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)

لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذِكْرِ الْأَعْرَاضِ الْمُفَارِقَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا النَّوْمُ بِاللَّيْلِ وَالْحَرَكَةُ طَلَبًا لِلرِّزْقِ بِالنَّهَارِ، فَذَكَرَ مِنَ اللَّوَازِمِ أَمْرَيْنِ، وَمِنَ الْمُفَارَقَةِ أَمْرَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ قِيلَ أَرَادَ بِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّوْمَ بِالنَّهَارِ وَهِيَ الْقَيْلُولَةُ: ثُمَّ قَالَ: وَابْتِغاؤُكُمْ أَيْ فِيهِمَا فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ أَرَادَ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِالنَّهَارِ فَلَفَّ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا [الْإِسْرَاءِ: ١٢] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: ١٠، ١١] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا:

وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخَّرَ الِابْتِغَاءَ وقرته فِي اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرَى الرِّزْقَ مِنْ كَسْبِهِ وَبِحِذْقِهِ، بَلْ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ، وَلِهَذَا قَرَنَ الِابْتِغَاءَ بِالْفَضْلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: ١٠] وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [النَّحْلِ: ١٤] المسألة الثانية: قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَقَالَ: لِلْعالِمِينَ فَنَقُولُ الْمَنَامُ بِاللَّيْلِ وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِهِ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَوِ الْغَافِلُ أَنَّهُمَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ طَبْعُ الْحَيَوَانِ فَلَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوْنُهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَلَمْ يَقُلْ آيَاتٌ لِلْعَالَمِينَ وَلِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ وَالْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِمَا لَا يَدُومُ لِزَوَالِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَا كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ، فَإِنَّهُمَا يَدُومَانِ بِدَوَامِ الْإِنْسَانِ/ فَجَعَلَهُمَا آيَاتٍ عَامَّةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ، وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِكْرَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَخْرُجُ بِالْفِكْرِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى مَوْقِفٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَمُرْشِدٍ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَيُفْهِمُهُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمُرْشِدِ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي تَفَهُّمِهِ إِلَى أَمْثِلَةٍ حِسِّيَّةٍ كَالْأَشْكَالِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَكِنَّ خَلْقَ الْأَزْوَاجِ لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ بِالطَّبْعِ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِدَ الْفِكْرِ خَامِدَ الذِّكْرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ الْخَلْقِ آيَةً، وَأَمَّا الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ فَقَدْ يَقَعُ لِكَثِيرٍ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مُرْشِدٍ بِغَيْرِ فِكْرَةٍ، فَقَالَ: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَيَجْعَلُونَ بالهم إلى كلام المرشد. ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٤]]

وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)

لَمَّا ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ اللَّازِمَةِ وَالْمُفَارِقَةِ ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ، وَقَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ وَفِي الْآيَةِ مسائل:

إحداها: لَمَّا قَدَّمَ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ هَاهُنَا قَدَّمَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ وَأَخَّرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ كَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>