للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ طه أَنَّهُ كَيْفَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْآيَاتِ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى الْعَصَا وَالْيَدِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُفْتَرًى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سِحْرًا وَفَاعِلُهُ يُوهِمُ خِلَافَهُ فَهُوَ الْمُفْتَرَى، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قِبَلِهِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ كَذِبٌ مِنْ هَذَا الوجه ثُمَّ ضَمُّوا إِلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أَيْ مَا حُدِّثَنَا بِكَوْنِهِ فِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ سَمِعُوا مِثْلَهُ، أَوْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ فِي فَظَاعَتِهِ، أَوْ مَا كَانَ الْكُهَّانُ يُخْبِرُونَ بِظُهُورِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَجِيئِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى التَّقْلِيدِ وَلِأَنَّ حَالَ الْأَوَّلِينَ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ لَا يُورِدَ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الحجة فَحِينَئِذٍ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ أَوْ أُورِدَ عَلَيْهِمْ فَدَفَعُوهُ فَحِينَئِذٍ/ لَا يَجُوزُ جَعْلُ جَهْلِهِمْ وَخَطَئِهِمْ حُجَّةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ عَرَفَ مِنْهُمُ الْعِنَادَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فَإِنَّ مَنْ أَظْهَرَ الحجة وَلَمْ يَجِدْ مِنَ الْخَصْمِ اعْتِرَاضًا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا لَمَّا وَجَدَ مِنْهُ الْعِنَادَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ مَعَهُ الْهُدَى وَالحجة مِنَّا جَمِيعًا وَمَنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَضُمَّ إِلَيْهِ طَرِيقَ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ مِنْ ثَوَابٍ عَلَى تَمَسُّكِهِ بِالْحَقِّ أَوْ مِنْ عِقَابٍ وَعَاقِبَةُ الدَّارِ هِيَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرَّعْدِ: ٢٢، ٢٣] وَقَوْلُهُ:

وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: ٤٢] وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الدُّنْيَا وَعَاقِبَتُهَا وَعُقْبَاهَا أَنْ يُخْتَمَ لِلْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَتَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ بِالْبُشْرَى عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قِيلَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَالْمَذْمُومَةُ كِلْتَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى عَاقِبَةَ الدَّارِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ خَاتِمَتُهَا بِخَيْرٍ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَبَشَرٍّ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَلِمَ اخْتُصَّتْ خَاتِمَتُهَا بِالْخَيْرِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ دُونَ خَاتِمَتِهَا بِالشَّرِّ؟ قُلْنَا إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ اللَّه سُبْحَانَهُ الدُّنْيَا مَجَازًا إِلَى الْآخِرَةِ وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ لَا يَعْمَلُوا فِيهَا إِلَّا الْخَيْرَ لِيَبْلُغُوا خَاتِمَةَ الْخَيْرِ وَعَاقِبَةَ الصِّدْقِ، فَمَنْ عَمِلِ فِيهَا خِلَافَ مَا وَضَعَهَا اللَّه لَهُ فَقَدْ حَرَّفَ، فَإِذَنْ عَاقِبَتُهَا الْأَصْلِيَّةُ هِيَ عَاقِبَةُ الْخَيْرِ، وَأَمَّا عَاقِبَةُ السُّوءِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا لِأَنَّهَا مِنْ نَتَائِجِ تَحْرِيفِ الْفُجَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَظْفَرُونَ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ وَالْمَنَافِعِ بَلْ يَحْصُلُونَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي زَجْرِهِمْ عَنِ العناد الذي ظهر منهم.

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]

وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>