فِعْلُ الْمُرَاءَاةِ وَثَالِثُهَا: مَنْعُ الْمَاعُونِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذُّنُوبِ، وَلَا يَصِيرُ الْمَرْءُ بِهِ مُنَافِقًا فَلِمَ حَكَمَ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ أَيْ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَهُ مَزِيدُ عُقُوبَةٍ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ وَتَرْكِهِ لِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَثَانِيهَا: مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُ: فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، لَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لَكِنَّهُ قَالَ: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وَالسَّاهِي عَنِ الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَذَكَّرُهَا وَيَكُونُ فَارِغًا عَنْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ السَّهْوَ عَنِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ وَأَيْضًا فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ لَا يَكُونُ نِفَاقًا وَلَا كُفْرًا فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُصَلِّينَ نَظَرًا إِلَى الصُّورَةِ وَبِأَنَّهُمْ نَسُوا الصَّلَاةَ بِالْكُلِّيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَيُجَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي بِأَنَّ النِّسْيَانَ عَنِ الصَّلَاةِ هُوَ أَنْ يَبْقَى نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِيهَا فَائِدَةً عَيْنِيَّةً يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَتَذَكَّرَ أَمْرَ الدِّينِ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ السَّهْوُ فِي الصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ سَاهِيًا فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ أَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُؤْمِنِ وَالسَّهْوَ عَنِ الصَّلَاةِ من أفعال الكافر وثالثها: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: ساهُونَ أَيْ لَا يَتَعَهَّدُونَ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ وَلَا شَرَائِطَهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُبَالِي سَوَاءٌ صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي سَهْوِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَهَا، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ/ السَّاهِي فَيَصِيرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِذَلِكَ الشَّرْعِ بِالْفِعْلِ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ السَّهْوِ مِنْهُ فَالسَّهْوُ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: سَهْوُ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَذَلِكَ مُنْجَبِرٌ تَارَةً بِسُجُودِ السَّهْوِ وَتَارَةً بِالسُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ اسْتِحْضَارِ الْمَعَارِفِ وَالنِّيَّاتِ وَالثَّالِثُ: التَّرْكُ لَا إِلَى قَضَاءٍ وَالْإِخْرَاجُ عَنِ الْوَقْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ وَهِيَ شَرٌّ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِالدِّينِ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ. أَمَّا قوله تعالى:
[[سورة الماعون (١٠٧) : آية ٦]]
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦)
فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُنَافِقِ وَالْمُرَائِي أَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْإِيمَانِ الْمُبْطِنُ لِلْكُفْرِ، وَالْمُرَائِي الْمُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنْ زِيَادَةِ خُشُوعٍ لِيَعْتَقِدَ فِيهِ مَنْ يَرَاهُ أَنَّهُ مُتَدَيِّنٌ، أَوْ تَقُولُ: الْمُنَافِقُ لَا يُصَلِّي سِرًّا وَالْمُرَائِي تَكُونُ صَلَاتُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَحْسَنَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ إِظْهَارُ الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهَا شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ وَتَارِكُهَا مُسْتَحِقٌّ لِلَّعْنِ فَيَجِبُ نَفْيُ التُّهْمَةِ بِالْإِظْهَارِ إِنَّمَا الْإِخْفَاءُ فِي النَّوَافِلِ إِلَّا أَظْهَرَ النَّوَافِلَ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ وَأَطَالَهَا، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِكَ! لَكِنَّ مَعَ هَذَا قَالُوا: لَا يَتْرُكُ النَّوَافِلَ حَيَاءً وَلَا يَأْتِي بِهَا رِيَاءً، وَقَلَّمَا يَتَيَسَّرُ اجْتِنَابُ الرِّيَاءِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرِّيَاءُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ في
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute