تَعَالَى كَذِبًا مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْ هَذَا الْكَافِرِ وَأَنَّهُ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنْهُ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْمَوْضُوعَةُ بِجَنْبِهِ/ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْجُبَّائِيِّ مَعَ قُوَّةِ خَاطِرِهِ حِينَ اسْتَدَلَّ بِتِلْكَ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَيُجِيبَ عَنْهَا حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الْجَمْعِ وَبَعْدَهُ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عليهم كلمات ربك [يونس: ٩٦] وفي حم المؤمن كذلك حقت كلمات [غافر: ٦] كُلُّهُ بِالْأَلِفِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ كَلِمَةُ رَبِّكَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْوُحْدَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ وَحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الثَّانِي: كَمَا حَقَّ صُدُورُ الْعِصْيَانِ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ كَلِمَةُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ اللَّه إِمَّا إِخْبَارُهُ عَنْ ذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ لَا يَقْبَلُ التَّغْيُّرَ وَالزَّوَالَ، أَوْ عِلْمُهُ بِذَلِكَ، وَعِلْمُهُ لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَالْجَهْلَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: عِلْمُ اللَّه تَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَخَبَرُهُ تَعَالَى تَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَقُدْرَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ، بَلْ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ وَإِرَادَتُهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ، بَلْ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ مَلَائِكَتَهُ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَوْ حَصَلَ الْإِيمَانُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، فَيَنْقَلِبُ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَقُدْرَتُهُ عَجْزًا، وَإِرَادَتُهُ كُرْهًا، وَإِشْهَادُهُ بَاطِلًا، وَإِخْبَارُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ.
[[سورة يونس (١٠) : آية ٣٤]]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، وَتَقْرِيرُهَا مَا شَرَحَ اللَّه تَعَالَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ مِنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا فَصَّلَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، لَا جَرَمَ اكتفى تعالى بذكرها هاهنا على سبيل الإجمال، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَامِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا ثُمَّ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ وَتَفْوِيضِ الْجَوَابِ إِلَى المسؤول، كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْقَوْمُ كَانُوا مُنْكِرِينَ الْإِعَادَةَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَبَيْنَ الْمُسِيءِ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَاقِلُ مِنْ دَفْعِهَا، فَلِأَجْلِ كَمَالِ قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا تَمْسَكَ بِهِ سَوَاءٌ سَاعَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُسَاعِدْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ، وَالْإِلْزَامُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوِ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِهِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا، فَإِذَا أُورِدَ عَلَى الْخَصْمِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِنَفْسِهِ