للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَاصْطَفَيْنَا عِبَادًا ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ، ثَانِيهَا: كَيْفَ يَكُونُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؟ نَقُولُ مِنْهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ، بَلِ الْمَعْنَى إِنَّ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنْتَ الْمُصْطَفَى كَمَا اصْطَفَيْنَا رُسُلًا وَآتَيْنَاهُمْ كُتُبًا، وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ قَوْمِكَ/ ظَالِمٌ كَفَرَ بِكَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمُقْتَصِدٌ آمَنَ بِكَ وَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا أَمَرْتُهُ بِهِ وَسَابِقٌ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا وثالثها: قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرعد: ٢٣] الدَّاخِلُونَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَكُونُ الظَّالِمُ دَاخِلًا، نَقُولُ الدَّاخِلُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَأَمْرُهُ مَوْقُوفٌ أَوْ هُوَ يَدْخُلُ النار أولا ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالْبَيَانُ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ لَا لِمَا بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْفِ: ٣١] وقوله: أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: ٣٤] . ثم قال:

[[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٣]]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)

وَفِي الدَّاخِلِينَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الظَّالِمَ وَالْمُقْتَصِدَ وَالسَّابِقَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَالثَّالِثُ: هُمُ السَّابِقُونَ وَهُوَ أَقْوَى لِقُرْبِ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ إِكْرَامَهُمْ بِقَوْلِهِ:

يُحَلَّوْنَ فَالْمُكَرَّمُ هُوَ السَّابِقُ وَعَلَى هَذَا فِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ وَتَأْخِيرُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِتَرْتِيبِ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا: اللَّهَ خَلَقَ السموات وَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ بَنَى الْجِدَارَ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ لَهُ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ السموات، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ ثُمَّ الْجِدَارُ مِنْ بِنَائِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا زَيْدٌ دَخَلَ الدَّارَ وَضَرَبَ عَمْرًا فَإِنَّ الدَّارَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مَفْعُولًا لِلدَّاخِلِ وَإِنَّمَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ تَحَقَّقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ وَكَذَلِكَ عَمْرٌو فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ زَيْدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَسُمِّيَ مَفْعُولًا لَا يَحْصُلُ هَذَا التَّرْتِيبُ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَلِهَذَا يُعَادُ الْمَفْعُولُ الْمُقَدَّمُ بِالضَّمِيرِ تَقُولُ عَمْرًا ضَرَبَهُ زَيْدٌ فَتُوقِعُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَطُولُ الْكَلَامُ فَلَا يَخْتَارُهُ الْحَكِيمُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْجَنَّاتِ عَلَى الْفِعْلِ الذي هو الدخول وإعادة ذكر بِالْهَاءِ فِي يَدْخُلُونَهَا، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟ نَقُولُ السَّامِعُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا مِنَ الْمَدَاخِلِ وَلَهُ دُخُولٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَدْخَلِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ تَدْخُلُ فَإِلَى أَنْ يَسْمَعَ الدَّارَ أَوِ السُّوقَ يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْمَدَاخِلِ يَكُونُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ دَارَ زَيْدٍ تَدْخُلُهَا فَبِذِكْرِ الدَّارِ، يَعْلَمُ مَدْخَلَهُ وَبِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ السَّابِقِ بِأَنَّ لَهُ دُخُولًا يَعْلَمُ الدُّخُولَ فَلَا يَبْقَى لَهُ تَوَقُّفٌ وَلَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَدْخَلَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا الثَّانِي: قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الدُّخُولِ فَإِنَّ التَّحْلِيَةَ لَوْ وَقَعَتْ خَارِجًا لَكَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الدُّخُولِ فَقَالَ: يَدْخُلُونَها وَفِيهَا تَقَعُ تَحْلِيَتُهُمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَساوِرَ بِجَمْعِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ جَمَعَ أَسْوِرَةً وَهِيَ جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَوْلُهُ: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ اللِّبَاسِ/ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةٍ مِنْ دَفْعِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الزِّينَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغِنَى الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَسَاوِرَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُلِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: ٢١] وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا:

إِظْهَارُ كَوْنِ الْمُتَحَلِّي غَيْرَ مُبْتَذَلٍ فِي الْأَشْغَالِ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ لَا يَكُونُ حَالَةَ الطَّبْخِ وَالْغَسْلِ وَثَانِيهِمَا: إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ إِمَّا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ وَإِمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والتحلي بالجواهر واللئالئ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَلِّيَ لَا يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَيْثُ يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ الْوُجُودِ لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضلة يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ حَاجَةً أَصْلِيَّةً

<<  <  ج: ص:  >  >>