للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِيهِ، وَقَالَ فِي النَّهَارِ مُبْصِرًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَأَيْضًا فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ اللَّيْلِ عَلَى ذِكْرِ النَّهَارِ مَعَ أَنَّ النَّهَارَ أَشْرَفُ مِنَ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ، أَمَّا الْيَقَظَةُ فَأُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» أَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الِاسْمِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الظُّلْمَةَ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَالنُّورَ طَبِيعَةٌ وُجُودِيَّةٌ وَالْعَدَمُ فِي الْمُحْدَثَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُجُودِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ الْبَالِغَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَالْمُرَادُ أن فضل الله على الخلق كثيرا جِدًّا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَهُ، وَأَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ الشُّكْرِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَوَاجِبَةُ الدَّوَرَانِ لِذَوَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ هَذَا الرَّجُلُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ مِنَ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ هذا الْعَالَمِ حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، أَعْنِي نِعْمَةَ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَمَّا دَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ نَسِيَهَا الْإِنْسَانُ، فَإِذَا ابْتُلِيَ الْإِنْسَانُ بِفُقْدَانِ شَيْءٍ مِنْهَا عَرَفَ قَدْرَهَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَ لِبَعْضِ النَّاسِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَنْ يَحْبِسَهُ بَعْضُ الظَّلَمَةِ فِي آبَارٍ عَمِيقَةٍ مُظْلِمَةٍ مُدَّةً مَدِيدَةً، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْرَ نِعْمَةِ/ الْهَوَاءِ الصَّافِي وَقَدْرَ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُلُوكِ كَانَ يُعَذِّبُ بَعْضَ خَدَمِهِ بأن أمر أقواما حتى يمنعونه عَنِ الِاسْتِنَادِ إِلَى الْجِدَارِ وَعَنِ النَّوْمِ فَعَظُمَ وَقْعُ هَذَا التَّعْذِيبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا مُحِبًّا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِذَا فَاتَهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ وَالْجَاهُ الْعَرِيضُ وَقَعَ فِي كُفْرَانِ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْخَلْقِ هَالِكِينَ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: ١٣] وَقَوْلُ إِبْلِيسَ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٧] وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ وُجُودَ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الرَّحِيمِ الْحَكِيمِ قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ذَلِكُمُ الْمَعْلُومُ الْمُمَيَّزُ بِالْأَفْعَالِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ هو اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ أَيْ هُوَ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَخَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ لَا ثَانِيَ لَهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَالْمُرَادُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وَلِمَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَتُكَذِّبُونَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلْهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ هِمَّةٌ لِطَلَبِ الحق وخوف العاقبة أفك كما أفكوا.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٤ الى ٦٧]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>