بِقَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوَاصَلَةَ الْغُمُومِ وَطُولَهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَكُمْ بِغُمُومٍ كَثِيرَةٍ، مِثْلَ قَتْلِ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ لَمْ تَأْمَنُوا أَنْ يَهْلَكَ أَكْثَرُكُمْ، وَمِثْلَ إِقْدَامِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَثَابَكُمْ هَذِهِ الْغُمُومَ الْمُتَعَاقِبَةَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ: أَنَّهُ خَلَقَ الْغَمَّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِهِمْ، فَذَكَرُوا فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا أَرَجَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، صَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ الْغَمَّ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَغُمُّهُ وَيَكُونُ مَعَهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَذِبٌ، فَإِذَا لَمْ يَكْشِفْهُ لَهُ سَرِيعًا وَتَرَكَهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ ثُمَّ أَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَقَدْ غَمَّمْتَنِي وَأَطَلْتَ حُزْنِي وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ سَكَتَ وَكَفَّ عَنْ إِعْلَامِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ البعد فَسَبَبُهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ طَبَعَ الْعِبَادَ طَبْعًا يَغْتَمُّونَ بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تَنَالُهُمْ وَهُمْ لَا يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُذَمُّونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَمَّ فِي قَلْبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ المصالح.
ثم قال تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا [إلى آخر الآية] وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ [آل عمران:
١٥٢] كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا، لِأَنَّ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى مَا يُزِيلُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَثَابَكُمْ غَمَّ الْهَزِيمَةِ مِنْ غَمِّكُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ، لِيَكُونَ غَمُّكُمْ بِأَنْ خَالَفْتُمُوهُ فَقَطْ، لَا بِأَنْ فَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ وَأَصَابَتْكُمُ الْهَزِيمَةُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُنْسِي الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلَكُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَعَلْتُمُوهُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ أَمْرُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ فَلَا تَحْزَنُوا بِفَوَاتِهَا وَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ لِلْمُجَازَاةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا بِمَعْنَى «مَعَ» فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لَوْ بَقِينَا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَامْتَثَلْنَا أَمْرَ الرَّسُولِ لَوَقَعْنَا فِي غَمِّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ/ لَمَّا خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَطَلَبْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَقَعْتُمْ فِي هَذِهِ الْغُمُومِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَالْعَاقِلُ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الضَّرَرَانِ، وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ أَعْظَمَهُمَا بِالدَّفْعِ، فَصَارَتْ إِثَابَةُ الْغَمِّ عَلَى الْغَمِّ مَانِعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَحْزَنُوا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، وَزَاجِرًا لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الزَّجْرِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، زَجَرَهُمْ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَقُصُودِكُمْ وَدَوَاعِيكُمْ، قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ لِلْعَبْدِ عَنِ الاقدام على المعصية والله أعلم.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute