للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخِطَابِ وَتَاءَ الْفَاعِلِ حَرْفَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي كَلِمَةٍ وَهَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ كَلِمَةٌ بِرَأْسِهَا وَهَمْزَةَ أَنْذَرْتَهُمْ أُخْرَى وَاحْتِمَالَ حَرْفَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ أَسْهَلُ مِنِ احْتِمَالِهِ فِي كَلِمَةٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِدْغَامُ فِي قَوْلِنَا: مَدَّ، وَلَمْ يَجِبْ فِي قَوْلِنَا امْدُدْ، وَ [فِي] قَوْلِنَا: مَرَّ، [دُونَ] قَوْلِهِ: أمر ربنا.

[[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)

[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ السَّبَبُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْقَبَائِحُ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ الْعَدُوُّ الْمُكَاشِحُ وَالْقَائِلُ إِذَا أَوْقَفَ أُمُورَهُ عَلَى الْيَقِينِ فَقَلَّمَا يَتَيَقَّنُ فِي أَحَدٍ عَيْبًا فَيَلْمِزُهُ بِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي الصُّورَةِ قَدْ يَكُونُ قَبِيحًا وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ سَاهِيًا أَوْ يَكُونَ الرَّائِي مُخْطِئًا، وَقَوْلُهُ كَثِيراً إِخْرَاجٌ لِلظُّنُونِ الَّتِي عَلَيْهَا تُبْنَى الْخَيْرَاتُ

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ظُنُّوا بِالْمُؤْمِنِ خَيْرًا»

وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْيَقِينِ، فَالظَّنُّ فِيهِ غَيْرُ مُجْتَنِبٍ مِثَالُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَلَى قَوْلِ الشُّهُودِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ اجْتَنِبُوا كَثِيراً وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ كَمَا أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُخَوِّفَةَ لَا يَتَّفِقُ كُلَّ مَرَّةٍ فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لِاتِّفَاقِ ذَلِكَ فِيهِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ فَتَسْلُكُهُ مَعَ رُفْقَةٍ كَذَلِكَ الظَّنُّ يَنْبَغِي بَعْدَ اجْتِهَادٍ تَامٍّ وَوُثُوقٍ بَالِغٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجَسَّسُوا إِتْمَامًا لِمَا سَبَقَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْيَقِينُ فَيَقُولُ الْقَائِلُ أَنَا أَكْشِفُ فُلَانًا يَعْنِي أَعْلَمُهُ يَقِينًا وَأَطَّلِعُ عَلَى عَيْبِهِ مُشَاهَدَةً فَأَعِيبُ فَأَكُونُ قَدِ اجْتَنَبْتُ الظن فقال تعالى: ولا تتبعوا الظَّنَّ، وَلَا تَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِ الْيَقِينِ فِي مَعَايِبِ النَّاسِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِشَارَةً إِلَى وُجُوبِ حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ فِي غَيْبَتِهِ وَفِيهِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَإِنَّهُ لِلْعُمُومِ فِي الحقيقة كقوله لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] وَأَمَّا مَنِ اغْتَابَ فَالْمُغْتَابُ أَوَّلًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ فَلَا يُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَى أَنْ يَغْتَابَهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَغْتَابُوا أَنْفُسَكُمْ لِمَا أَنَّ الْغِيبَةَ لَيْسَتْ حَامِلَةً لِلَعَائِبَ عَلَى عَيْبِهِ مَنِ اغْتَابَهُ، وَالْعَيْبُ حَامِلٌ عَلَى الْعَيْبِ ثَانِيهَا: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَغْتَابُوا، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ نَقُولُ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ اغْتِيَابُ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْلَنُ وَيُذْكَرُ بِمَا فِيهِ وَكَيْفَ لَا وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ بِمَا فيه عند الحاجة [قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً] ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِيَابَ الْمَمْنُوعَ اغْتِيَابُ الْمُؤْمِنِ لَا ذِكْرُ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ، وَقَالَ مِنْ قبل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

[الحجرات: ١٠] فَلَا أُخُوَّةَ إِلَّا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مَنْعَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ يُشْبِهُ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيٌ عَنِ اغْتِيَابِ الْمُؤْمِنِ دُونَ الْكَافِرِ رَابِعُهَا: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ؟ نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِرْضَ الْإِنْسَانِ كَدَمِهِ وَلَحْمِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِرْضَ الْمَرْءِ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْسُنْ مِنَ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ آلَمُ، وَقَوْلُهُ لَحْمَ أَخِيهِ آكَدُ فِي الْمَنْعِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَحْمِلُهُ الْغَضَبُ عَلَى مَضْغِ لَحْمِ الْعَدُوِّ، فَقَالَ أَصْدَقُ الْأَصْدِقَاءِ مَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّكَ، فَأَكْلُ لَحْمِهِ أَقْبَحُ/ مَا يَكُونُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَيْتاً إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ وَهْمٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْقَوْلُ فِي الْوَجْهِ يُؤْلِمُ فَيَحْرُمُ، وَأَمَّا الِاغْتِيَابُ فَلَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِلْمُغْتَابِ فَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>