للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عجزه، والظاهر أن الأمر هاهنا مبقي عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ائْتُوا مُطْلَقًا بَلْ إِنَّمَا قَالَ: ائْتُوا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَأَمْرُ التَّعْجِيزِ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا يُورِثُ خَلَلًا فِي كَلَامِهِمْ.

الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَدِيثُ مُحْدَثٌ وَالْقُرْآنُ سَمَّاهُ حَدِيثًا فَيَكُونُ مُحْدَثًا، نَقُولُ الْحَدِيثُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، يُقَالُ لِلْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَدِيثٌ قَدِيمٌ بِمَعْنَى مُتَقَادِمِ الْعَهْدِ لَا بِمَعْنَى سَلْبِ الْأَوَّلِيَّةِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ.

الثَّالِثُ: النُّحَاةُ يَقُولُونَ الصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، لَكِنَّ الْمَوْصُوفَ حَدِيثٌ وَهُوَ مُنَكَّرٌ وَمِثْلُ مُضَافٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُعَرَّفِ مُعَرَّفٌ، فَكَيْفَ هَذَا؟ نَقُولُ مِثْلُ وَغَيْرُ لَا يَتَعَرَّفَانِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا هُوَ مِثْلُهُمَا وَالسَّبَبُ أَنَّ غَيْرَ أَوْ مِثْلًا وَأَمْثَالَهُمَا فِي غَايَةِ التَّنْكِيرِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا مِثْلَ زَيْدٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلُ زَيْدٍ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا، فَالْجَمَادُ مِثْلُهُ فِي الْجِسْمِ وَالْحَجْمِ وَالْإِمْكَانِ، وَالنَّبَاتُ مِثْلُهُ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ وَالذُّبُولِ وَالْفَنَاءِ، وَالْحَيَوَانُ مِثْلُهُ فِي الْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ، وَأَمَّا غَيْرُ فَهُوَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ يُنَكَّرُ وَعِنْدَ قَطْعِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا يَتَعَرَّفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ غَيْرَ زَيْدٍ صَارَ فِي غاية الإبهام فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أُمُورًا لَا حَصْرَ لَهَا، وَأَمَّا إِذَا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا تَقُولُ الْغَيْرُ وَالْمُغَايَرَةُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّغَيُّرُ فَتَجْعَلُ الْغَيْرَ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنًى مُعَيَّنًا.

الرَّابِعُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِهِمْ تَقَوَّلَهُ [الطُّورِ: ٣٣] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَاهِنٌ وَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ، وَلَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ كَذَبُوا فِي الْكُلِّ.

الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَدِّي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا لِفَصَاحَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا لِصَرْفِ اللَّه عُقُولَ الْعُقَلَاءِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَعَقْلِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَمَنْعِ الْقَادِرِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَقْدُورِ كَإِتْيَانِ الْوَاحِدِ بِفِعْلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَنَا أُحَرِّكُ هَذَا الْجَبَلَ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا قَالَ إِنِّي أَفْعَلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ [مَعَهُ] عَلَى حَمْلِ تُفَّاحَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلٌ مُعْجِزٌ إِذَا اتَّصَلَ بِالدَّعْوَى، وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا فَسَادَ فِيهِ وَعَلَى أَنْ يُقَالَ هو معجز بهما جميعا. ثم قال تعالى:

[[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٥]]

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥)

وَمِنْ هُنَا لَا خِلَافَ أَنَّ أَمْ لَيْسَتْ بِمَعْنَى بَلْ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، إِمَّا بِالْهَمْزَةِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ هَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ أَمَا خُلِقُوا، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ لَمَّا كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَالشِّعْرِ وَبَرَّأَهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، ذكر الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ وَبَدَأَ بِأَنْفُسِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ كَيْفَ يُكَذِّبُونَهُ وَفِي

<<  <  ج: ص:  >  >>