[[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ حَقٌّ، بين بعد ذلك صِفَتَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ١٤٤] وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي الْبَاطِلِ أَنَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَى النَّفْسِ، بَلْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهُدَى فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَتَنَاوَلُ عَوَامَّهُمْ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الأنعام: ٢٠] مُخْتَصٌّ بِالْعُلَمَاءِ أَيْضًا إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي الْكُلِّ امْتَنَعَ الْكِتْمَانُ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ، وَإِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خَاصًّا فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَمُسْتَمِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُعَانِدِ اللَّجُوجِ، لَا شَأْنَ الْمُعَانِدِ الْمُتَحَيِّرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ لَصَارَتِ الْآيَةُ كَذِبًا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعَ قَبِلْتَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، ثُمَّ أَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى أَنَّ صَاحِبَ الشُّبْهَةِ صَاحِبُ هَوًى فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ مَا تَمَّمَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فَإِنَّهُ لَوْ أَتَى بِتَمَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَوَصَلَ إِلَى الْحَقِّ، فَحَيْثُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ النَّظَرَ التَّامَّ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَعْضُهُمْ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كُلُّهُمْ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَالْعَوَامَّ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى اتِّبَاعِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ كَانَ/ الْإِصْرَارُ حَاصِلًا فِي الْكُلِّ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَوْلُنَا: كُلُّ الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ مُغَايِرٌ لِقَوْلِنَا إِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَقْدُورِ لُطْفٌ لِبَعْضِهِمْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي الْمَقْدُورِ لِهَؤُلَاءِ لُطْفٌ، لَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْآيَاتِ مَا لَوْ أَتَاهُمْ بِهِ لَكَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَكَانَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فِيمَا يَرْتَكِبُونَ، فَإِنَّهُمْ مُسْتَطِيعُونَ لِأَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَيَتْرُكُوا ضِدَّهُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَهُ، فَلَوِ اتَّبَعُوا قِبْلَتَهُ لزم انقلاب
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute