للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلِأَنَّهُ يَلُومُ نَفْسَهُ وَأَصْحَابُهُ أَيْضًا يَلُومُونَهُ عَلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِبْقَاءِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ فِي الضُّرِّ وَالْمِحْنَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَحْسُوراً فَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْبَعِيرِ: هُوَ مَحْسُورٌ إِذَا انْقَطَعَ سَيْرُهُ وَحَسَرْتُ الدَّابَّةَ إِذَا سَيَّرَهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ سَيْرُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْمُلْكِ: ٤] وَجَمْعُ الْحَسِيرِ حَسْرَى مِثْلُ قَتْلَى وَصَرْعَى، وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ مَنْ أَنْفَقَ كُلَّ مَالِهِ وَنَفَقَاتِهِ بِمَنِ انْقَطَعَ فِي سَفَرِهِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ مَطِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ مِنَ الْمَالِ كَأَنَّهُ مَطِيَّةٌ يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ وَيُبَلِّغُهُ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْبَعِيرَ يَحْمِلُهُ وَيُبَلِّغُهُ إِلَى آخِرِ الْمَنْزِلِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ بَقِيَ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ عَاجِزًا مُتَحَيِّرًا فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْفَقَ الْإِنْسَانُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ بَقِيَ فِي وَسَطِ ذَلِكَ الشَّهْرِ عَاجِزًا مُتَحَيِّرًا وَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَحِقَهُ اللَّوْمُ مِنْ أَهْلِهِ وَالْمُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْفَاقِهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ سُوءِ تَدْبِيرِهِ وَتَرْكِ الْحَزْمِ فِي مُهِمَّاتِ مَعَاشِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَرَّفَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوْنَهُ رَبًّا. وَالرَّبُّ هُوَ الَّذِي يُرَبِّي الْمَرْبُوبَ وَيَقُومُ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ وَدَفْعِ حَاجَاتِهِ عَلَى مِقْدَارِ الصَّلَاحِ وَالصَّوَابِ فَيُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى الْبَعْضِ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى الْبَعْضِ. وَالْقَدْرُ فِي اللُّغَةِ التَّضْيِيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطَّلَاقِ: ٧] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الْفَجْرِ: ١٦] أَيْ ضَيَّقَ وَإِنَّمَا وَسَّعَ عَلَى الْبَعْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّلَاحُ لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: ٢٧] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَالتَّفَاوُتُ فِي أَرْزَاقِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَجْلِ البخل، بل لأجل رعاية المصالح.

[[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣١]]

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)

هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنَ الطَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء: ٣٠] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ كَيْفِيَّةَ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ الْبِرِّ بِالْأَوْلَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ بِالْأَبْرَارِ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِرُّ الْآبَاءِ مُكَافَأَةً عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ بِالْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْبِرُّ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَا كَافِلَ لَهُمْ غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ امْتِنَاعَ الْأَوْلَادِ مِنَ الْبِرِّ بِالْآبَاءِ يُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْآبَاءَ إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ قَلَّتْ رَغْبَتُهُمْ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، فَيَلْزَمُ خَرَابُ الْعَالَمِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عِمَارَةَ الْعَالَمِ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا حَصَلَتِ الْمَبَرَّةُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ إِنْ كَانَ لِخَوْفِ الْفَقْرِ فَهُوَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْبَنَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>