للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْرِفُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا من العالم بكل المعلومات.

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢١]

وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ لَفْظَتَانِ، فَقَوْلُهُ: وَما تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا، وَقَوْلُهُ: بِيَمِينِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَدِ، وَفِي هَذَا نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا، وَنَقَلَهُ مِنْ حَدِّ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْكَرَامَةِ، فَإِذَا صَارَ/ الْجَمَادُ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ حَيَوَانًا، وَصَارَ الْجِسْمُ الْكَثِيفُ نُورَانِيًّا لَطِيفًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إِلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُهُ مِنْ مَوْتِ الْعِصْيَانِ إِلَى سَعَادَةِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الْمَعْرِفَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ صَارَ الْجَمَادُ ثُعْبَانًا يَبْتَلِعُ سِحْرَ السَّحَرَةِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوْ صَارَ الْقَلْبُ بِمَدَدِ النَّظَرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَبْتَلِعُ سِحْرَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْعَصَا فِي يَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبِسَبَبِ بَرَكَةِ يَمِينِهِ انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا وَبُرْهَانًا، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِيَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالْبَرَكَةُ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِصْبَعِي الرَّحْمَنِ مِنْ ظُلْمَةِ المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سُؤَالٌ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ شَيْئًا شَرِيفًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ: هَذَا مَا هُوَ؟ فَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِظْهَارِ صِفَتِهِ الْفَائِقَةِ فِيهِ يَقُولُ لَهُمْ خُذَا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا.

فاللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الْعَصَا تِلْكَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ كَانْقِلَابِهَا حَيَّةً، وَكَضَرْبِهِ الْبَحْرَ حَتَّى انْفَلَقَ، وَفِي الْحَجَرِ حَتَّى انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، عَرَضَهُ أَوَّلًا عَلَى مُوسَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى هَلْ تَعْرِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ وَأَنَّهُ خَشَبَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَبَهُ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، فَيَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَدْ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ عَظَمَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَسْمَعَهُ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ أَسْمَعَهُ كَلَامَ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَزَجَ اللُّطْفَ بِالْقَهْرِ فَلَاطَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثُمَّ قَهَرَهُ بِإِيرَادِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ وَإِلْزَامِهِ عِلْمَ الْمَبْدَأِ وَالْوَسَطِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ خَتَمَ كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، تَحَيَّرَ مُوسَى وَدَهِشَ وَكَادَ لَا يَعْرِفُ الْيَمِينَ مِنَ الشِّمَالِ فقيل له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَمِينَهُ هِيَ الَّتِي فِيهَا الْعَصَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَهُ أَوَّلًا بِكَلَامِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَحَيَّرَ مُوسَى مِنَ الدَّهْشَةِ تَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى مُوسَى فِي الْحَضْرَةِ أَرَادَ رَبُّ الْعِزَّةِ إِزَالَتَهَا فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا وَهُوَ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ. كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وَوَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ فَالدَّهْشَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>