للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَاعْلَمْ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ كَالْأَمْرِ الْمُجَاوِرِ لِلنُّفُوسِ اللَّازِمِ لَهَا، يَعْنِي أَنَّ النُّفُوسَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الشُّحِّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشِحُّ بِبَذْلِ نَصِيبِهَا وَحَقِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الزَّوْجَ يَشِحُّ بِأَنْ يَقْضِيَ عُمُرَهُ مَعَهَا مَعَ دَمَامَةِ وَجْهِهَا وَكِبَرِ سِنِّهَا وَعَدَمِ حُصُولِ اللَّذَّةِ بِمُجَانَسَتِهَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، يَعْنِي وَإِنْ تُحْسِنُوا بِالْإِقَامَةِ عَلَى نِسَائِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَتَيَقَّنْتُمُ النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْأَذَى وَالْخُصُومَةِ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى خَبِيرًا، وَهُوَ يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، يَعْنِي وَإِنْ يُحْسِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا إِلَى صَاحِبِهِ وَيَحْتَرِزْ عَنِ الظُّلْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِغَيْرِهِمَا، يَعْنِي إِنْ تُحْسِنُوا فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُمَا وَتَتَّقُوا الْمَيْلَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَكَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ الْخَارِجِيَّ كَانَ مِنْ أَدَمِّ بَنِي آدَمَ، وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَجْمَلِهِمْ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَتْ: الْحَمْدُ للَّه، فَقَالَ مالك؟

فَقَالَتْ حَمِدْتُ اللَّه عَلَى أَنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّكَ رُزِقْتَ مِثْلِي فَشَكَرْتَ، وَرُزِقْتُ مِثْلَكَ فَصَبَرْتُ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّه بِالْجَنَّةِ عِبَادَهُ الشاكرين والصابرين.

[[سورة النساء (٤) : آية ١٢٩]]

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي مَيْلِ الطِّبَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ تَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَا جَائِزِ الْوُقُوعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشْكَالَ لا زم عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ وَفِي الدَّوَاعِي.

الثَّانِي: لَا تَسْتَطِيعُونَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْحُبِّ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي نَتَائِجِ الْحُبِّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي وَمَعَ قِيَامِ/ الصَّارِفِ مُحَالٌ.

ثُمَّ قَالَ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْ حُصُولِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وُسْعِكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

رَوَى الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ وَيَقُولُ: «هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا لَا أَمْلِكُ» .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يَعْنِي تَبْقَى لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَلَّقَ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى السَّمَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَتَذَرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ،

وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ»

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعَثَ إِلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِلَى كُلِّ أَزْوَاجِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرُ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا، بَعَثَ إِلَى الْقُرَشِيَّاتِ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِلَى غَيْرِهِنَّ بِغَيْرِهِ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعدل بيننا في الْقِسْمَةِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَأَتَمَّ لَهُنَّ جَمِيعًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا بِالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ الْبَعْضِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا مَضَى مِنْ مَيْلِكُمْ وَتَتَدَارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وَتَتَّقُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ مِثْلِهِ غفر اللَّه

<<  <  ج: ص:  >  >>