للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خِلَافِ جِنْسِهِمْ وَأَتَى بِمَا يَعْجَزُونَ عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَا نَقْدِرُ لِأَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ خَاصِّيَّةً، فَإِنَّ خَاصِّيَّةَ النَّعَامَةِ بَلْعُ النَّارِ، وَالطُّيُورِ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، وَابْنُ آدَمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ الْإِبْطَالُ جَائِزٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَانَ بَاطِلًا، وَلَكِنَّ تَقْرِيرَ الْبَاطِلِ كَيْفَ يَجُوزُ، نَقُولُ الْمُبَيِّنُ لِبُطْلَانِ الْكَلَامِ يَجِبُ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ وَيَذْكُرَ فِيهِ كُلَّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُبْطِلُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَجِبْتُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِهَذَا التَّعَجُّبِ، فَإِنْ قِيلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَاللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ كَوْنَهُ بَشِيرًا عَلَى كَوْنِهِ نَذِيرًا، فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ بَشِيرٌ مِنْهُمْ؟ نَقُولُ هُوَ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْبِشَارَةِ مَوْضِعًا كَانَ فِي حَقِّهِمْ مُنْذِرًا لَا غَيْرُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا تَعَجُّبٌ آخَرُ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] فَعَجِبُوا مِنْ كَوْنِهِ مُنْذِرًا مِنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي أَوَّلِ/ سُورَةِ ص حيث قال فيه وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ص: ٤] وَقَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] ذَكَرَ تَعَجُّبَهُمْ مِنْ أَمْرَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إِشَارَةٌ إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ لَا إِلَى الْحَشْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فَقَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ وقال هاهنا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ وَلَمْ يَكُنْ مَا يَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا مَجِيءَ الْمُنْذِرِ.

ثُمَّ قَالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ الثَّانِي: هاهنا وجد بعد الاستبعاد بِالِاسْتِفْهَامِ أَمْرٌ يُؤَدِّي مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ فَإِنَّهُ اسْتِبْعَادٌ وَهُوَ كَالتَّعَجُّبِ فَلَوْ كَانَ التَّعَجُّبُ أَيْضًا عَائِدًا إِلَيْهِ لَكَانَ كَالتَّكْرَارِ، فَإِنْ قِيلَ التَّكْرَارُ الصَّرِيحُ يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ قَوْلِكَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ عَائِدًا إِلَى مَجِيءِ الْمُنْذِرِ، فَإِنَّ تَعَجُّبَهُمْ مِنْهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ فَقَوْلُهُ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ يَكُونُ تَكْرَارًا، نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرَارٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: بَلْ عَجِبُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَجَازَ أَنْ يَتَعَجَّبَ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يَكُونُ عَجِيبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هُودٍ: ٧٣] وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَا وَجْهَ لِتَعَجُّبِكَ مِمَّا لَيْسَ بِعَجَبٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَجِبُوا قِيلَ لَهُمْ لَا مَعْنَى لِفِعْلِكُمْ وَعَجَبِكُمْ فَقَالُوا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ فَكَيْفَ لَا نَعْجَبُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تعالى قال هاهنا فَقالَ الْكافِرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَقَالَ فِي ص وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: ٤] لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ساحِرٌ كَذَّابٌ كَانَ تَعَنُّتًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ على ما تقدم، وهذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَمْرٌ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ عَجِبُوا وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالُوا هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ فَكَيْفَ لَا نَعْجَبُ مِنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:

ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبُعْدِ، وَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، وَذَلِكَ لا يصح إلا على قولنا. ثم قال تعالى:

[[سورة ق (٥٠) : آية ٣]]

أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)

فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا الْعَجَبَ مِنْ رِسَالَتِهِ أَظْهَرُوا اسْتِبْعَادَ كَلَامِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سَبَأٍ: ٤٣] ، وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سَبَأٍ: ٤٣] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: فقوله أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِنْكَارٌ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ بِمَفْهُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: ٢] لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْعَذَابِ الْمُقِيمِ وَالْعِقَابِ الْأَلِيمِ، كَانَ فِيهِ الْإِشَارَةُ لِلْحَشْرِ، فقالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً.

<<  <  ج: ص:  >  >>