لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ كلمة إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي فَجَوَابُهُ مَا
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَاتِ،
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ مَرَّتَيْنِ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الأول: عَمَلُ الِاتِّقَاءِ، وَالثَّانِي: دَوَامُ الِاتِّقَاءِ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ: اتِّقَاءُ ظُلْمِ الْعِبَادِ مَعَ ضَمِّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ اتِّقَاءُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي: اتِّقَاءُ الخمر والميسر وما في هذه الآية. الثالث: اتِّقَاءُ مَا يَحْدُثُ تَحْرِيمُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، الْقَوْلُ الثَّالِثُ: اتِّقَاءُ الْكُفْرِ ثُمَّ الْكَبَائِرِ ثُمَّ الصَّغَائِرِ، الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: التَّقْوَى الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّقَاءِ مِنَ الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النَّسْخِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ النَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبَاحَةً أَنْ يَتَّقُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّقْوَى الثَّانِيَةُ الْإِتْيَانُ بِالْعَمَلِ الْمُطَابِقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّقْوَى الثَّالِثَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثُمَّ يُضَمُّ إِلَى هَذِهِ التَّقْوَى الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ شَرَطَ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَطْعُومَاتِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ التَّنَاوُلِ، بَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ وَفِي تَرْكِ التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ فَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا لِلِاشْتِرَاطِ بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَحَمْدًا لِأَحْوَالِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَكَ: هَلْ عَلَى زَيْدٍ فِيمَا فَعَلَ جُنَاحٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُبَاحٌ فَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ فِي الْمُبَاحِ إِذَا اتَّقَى الْمَحَارِمَ وَكَانَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا تُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا إِنْ بَقِيَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا فَعَلَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْإِحْسَانَ شَرْطًا فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ بَيَّنَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِحْسَانِ لَيْسَ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ فَقَطْ، بَلْ وَفِي أَنْ يُحِبَّهُ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَشْرَفُ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)