للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى يَنْبُوعِ الرَّحْمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَهُوَ الذَّاتُ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ لَا تُوَقِّفُكَ إِلَّا فِي مَقَامَاتِ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) أَشْرَفَ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِ لَفْظِ (هُوَ) وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ سُبْحَانَهُ فِي أَنْ يُنَوِّرَ بِدُرَّةٍ مِنْ لَمَعَاتِ أَنْوَارِهَا صُدُورَنَا وَأَسْرَارَنَا، وَيُرَوِّحَ بِهَا عُقُولَنَا وَأَرْوَاحَنَا حَتَّى نَتَخَلَّصَ مِنْ ضِيقِ عَالَمِ الْحُدُوثِ إِلَى فُسْحَةِ مَعَارِجِ الْقِدَمِ، وَنَرْقَى مِنْ حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الْأَنْوَارِ وَمَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِعَزِيزٍ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ارْتَفَعَ هُوَ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا مَعَ الِاسْمِ وَلْنَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِهِ: مَا جَاءَنِي رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ فَقَوْلُهُ: إِلَّا زِيدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ لِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هِيَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا جَاءَنِي إِلَّا زَيْدٌ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الْمَجِيءِ عَنِ الْكُلِّ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: جَاءَنِي إِلَّا زَيْدًا فَهَهُنَا الْبَدَلِيَّةُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ: جَاءَنِي خَلْقٌ إِلَّا زَيْدًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَاءَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا زَيْدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ هِيَ النِّعْمَةُ وَفَاعِلُهَا هُوَ الرَّاحِمُ فَإِذَا أَرَدْنَا إِفَادَةَ الْكَثْرَةِ قُلْنَا (رَحِيمٌ) وَإِذَا أَرَدْنَا الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ قُلْنَا الرَّحْمنُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِلَهِيَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ يُفِيدُ الْقَهْرَ وَالْعُلُوَّ فَعَقَّبَهُمَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ تَرْوِيحًا لِلْقُلُوبِ عَنْ هَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعِزَّةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَأَنَّهُ مَا خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِالْفَرْدَانِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ذَكَرَ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِهِ سبحانه أولا وعلى توحيده وبراءته على الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ ثَانِيًا، وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي شَرْحِ تكلم الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخَلْقَ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ:

الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ ليست إلا في الْمَخْلُوقُ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَهَذَا الْإِخْرَاجُ لَوْ كَانَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْقُدْرَةِ وَالْأَثَرِ فَهُوَ إِمَّا أن يكون قديما أو حديثا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي الْأَزَلِ مُسَمَّى الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَالْأَزَلُ هُوَ نَفْيُ الْمَسْبُوقِيَّةِ فَلَوْ حَصَلَ الْإِخْرَاجُ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَلَا بُدَّ لَهُ أَيْضًا مِنْ مُخْرِجٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِخْرَاجٍ آخَرَ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُخْرِجًا لِلْأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمِهَا إِلَى وُجُودِهَا، ثُمَّ فِي الْأَزَلِ هَلْ أَحْدَثَ أَمْرًا أَوْ لَمْ