للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَكْمَلُ الطُّرُقِ فِي الْإِشَارَةِ بَقِيَ الطَّرِيقَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ (أَنْتَ) وَ (هُوَ) أَمَّا (أَنْتَ) فَهُوَ لِلْحَاضِرِينَ فِي مَقَامَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ لِمَنْ فَنِيَ عَنْ جَمِيعِ الْحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَنِيَ عَنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَعَنْ آثَارِ الْحُدُوثِ وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الشُّهُودِ فَقَالَ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بِالْغَيْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نفسك»

وأما هُوَ فللغائبين، ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هُوَ فِي حَقِّهِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ إِمَّا كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ، وَأَعْنِي بِكُلِّيٍّ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْنِي بِالْجُزْئِيِّ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ أَمْرًا لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ وَذَاتُهُ الْمُعَيَّنَةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَانِعَةٌ مِنَ الشَّرِكَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ: كَالرَّحْمَنِ، وَالرَّحِيمِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْعَلِيمِ، وَالْقَادِرِ، لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: يَا أَنْتَ وَيَا هُوَ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَالْعِلْمُ فَرْعٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَصْلٌ وَالْأَصْلُ أَشْرَفُ مِنَ الْفَرْعِ، فَقَوْلُنَا: يَا أَنْتَ، يَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ (أَنْتَ) لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ الْغَائِبَ وَفِيهِ سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ (هُوَ) إِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْعَقْلِ صُورَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَقَوْلُكَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الصُّورَةَ وَهِيَ حَاضِرَةٌ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ (هُوَ) أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْحَاضِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ مُنَزَّهَةٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ التَّرَاكِيبِ، وَالْفَرْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ نَعْتُهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وَعِنْدَ حُصُولِ الْغَيْرِيَّةِ لَا تَبْقَى الْفَرْدَانِيَّةُ، وَأَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ لِأَنَّ النعت يَقْتَضِي مُخْبَرًا عَنْهُ وَمُخْبِرًا بِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْفَرْدَانِيَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ قَاصِرَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ وَأَمَّا لَفْظُ (هُوَ) فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمُفْرَدَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لِوُصُولِهَا إِلَى كُنْهِ الْحَقِيقَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَمْتَنِعُ وُصُولُهَا إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُشْتَقَّةَ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ لِلذَّاتِ ثُمَّ مَاهِيَّاتُ صِفَةِ الْحَقِّ أَيْضًا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِآثَارِهَا الظَّاهِرَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَلَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، وَمِنْ قُدْرَتِهِ إِلَّا أَنَّهَا الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لا يمكننا تعلقها إِلَّا عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَالْأَلْفَاظُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تُشِيرُ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، بَلْ تُشِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ مَعًا/ وَالنَّاظِرُ إِلَى شَيْئَيْنِ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا قَاصِرًا، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تَصِيرُ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ، وَأَمَّا (هُوَ) فَإِنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عيله مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا مِنْ حَيْثُ عَرَضَتْ لَهُ إِضَافَةٌ أَوْ نِسْبَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى الحق ويقطعك عما سواء، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُكَ عما سواء، فكان لفظ (هُوَ) أَشْرَفَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْبَرَاهِينَ السَّالِفَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْبَعَ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ هُوَ الذَّاتُ، وَأَنَّ ذَاتَهُ مَا كَمُلَتْ بِالصِّفَاتِ بَلْ ذَاتُهُ لِكَمَالِهَا اسْتَلْزَمَتْ