للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَعَنِ الْوُجُودِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُمَا كَانَ نَفْيُهَا نَفْيًا لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمْكَنَ نَفْيُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ تَوْجِيهُ النَّفْيِ إِلَيْهَا إِلَّا بِتَوْجِيهِ النَّفْيِ، إِمَّا إِلَى الْمَاهِيَّةِ وَإِمَّا إِلَى الْوُجُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ الْبَتَّةَ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْيِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّكَ مَا لَمْ تَتَصَوَّرِ الْوُجُودَ أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لَا تَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَّا ارْتِفَاعَ الْوُجُودِ. فَتَصَوُّرُ الْوُجُودِ غَنِيٌّ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَدَمِ، وَتَصَوُّرُ الْعَدَمِ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَلْبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى قَدَّمْنَا النَّفْيَ وَأَخَّرْنَا الْإِثْبَاتَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعَقْلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْيِ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَانَ لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي كَلِمَةِ هُوَ اعْلَمْ أَنَّ الْمَبَاحِثَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهُوَ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْأَسْرَارُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ، اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُظْهَرَةٌ وَمُضْمَرَةٌ: أَمَّا الْمُظْهَرَةُ فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَالسَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَهِيَ الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، وَالْمُخَاطَبِ، وَالْغَائِبِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُهَا أَنَا، ثُمَّ أَنْتَ، ثُمَّ هُوَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ تَصَوُّرِي لِنَفْسِي مِنْ حَيْثُ أَنِّي أَنَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ أَصِيرَ مُشْتَبَهًا بِغَيْرِي، أَوْ يَشْتَبِهَ بِي غَيْرِي، بِخِلَافِ أَنْتَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَشْتَبِهُ بِغَيْرِكَ، وَغَيْرُكُ يَشْتَبِهُ بِكَ فِي عَقْلِي وَظَنِّي، وَأَيْضًا فَأَنْتَ أَعْرَفُ مِنْ هُوَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَشَدَّ الْمُضْمَرَاتِ عِرْفَانًا أَنَا وَأَشَدَّهَا بُعْدًا عَنِ الْعِرْفَانِ. (هُوَ) وَأَمَّا (أَنْتَ) فَكَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْرَفَ الضَّمَائِرِ قَوْلًا قَوْلِي (أَنَا) أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وهاهنا لَا يُمْكِنُ الِالْتِبَاسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْفَصْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، أَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَكَقَوْلِكَ: شَرِبْنَا، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَقَوْلِكَ: نَحْنُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِلْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُ فَإِنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ لَفْظِ مُؤَنَّثِهِ وَمُذَكَّرِهِ، وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا، فَيُخَاطِبُ أَحَدَهُمَا فَلَا يَعْرِفُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِعَلَامَةٍ: وَتَثْنِيَةُ الْمُخَاطَبِ وَجَمْعُهُ إِنَّمَا حَسُنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَاضِرَ أَعْرَفُ مِنَ الْغَائِبِ فَهَذَا أَمْرٌ كَالضَّرُورِيِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ عِرْفَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ أَتَمُّ مِنْ عِرْفَانِهِ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَالْعِرْفَانُ التَّامُّ بِاللَّهِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِنَفْسِهِ (أَنَا) وَلَفْظُ (أَنَا) أَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ الضَّمَائِرِ وَهُوَ قَوْلُ (أَنَا) إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِرْفَانَ التَّامَّ بِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ليس الإله.

بَقِيَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا يُجَوِّزُونَ الِاتِّحَادَ: الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا اسْتَنَارَتْ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ اتَّحَدَ الْعَاقِلُ بِالْمَعْقُولِ وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ يَصِحُّ لِذَلِكَ الْعَارِفِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا اللَّهُ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لِأَنَّ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ فَنِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَذَاكَ لَيْسَ بِاتِّحَادٍ، وَإِنْ بَقِيَا فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، / وَلَمَّا انْسَدَّ هَذَا الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ