للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يَصِيرُ وَلِيًّا لِأَجْلِ أَنَّ الْحَقَّ يُحِبُّهُ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْحَقَّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ إِنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَعَدَاوَتَهُ سِرَّانِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَطَاعَاتُ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَبَّةِ الْحَقِّ وَعَدَاوَتِهِ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ مُحْدَثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُحْدَثُ الْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ غَالِبًا لِلْقَدِيمِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا أَنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْمَحَبَّةِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الطَّاعَةِ وَلَكِنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْعَدَاوَةِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَعَدَاوَتَهُ صِفَةٌ، وَصِفَةُ الْحَقِّ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَمَنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَا لِعِلَّةٍ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ عَدُوًّا بِعِلَّةِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ كَانَتْ عداوته لَا لِعِلَّةٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ مُحِبًّا لِعِلَّةِ الطَّاعَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَعَدَاوَتُهُ سِرَّيْنِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِمَا لَا جَرَمَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] .

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ/ الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: ١٦٠] وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْخَاتِمَةِ لَا مِنْ أَوَّلِ الْعَمَلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مَضَى عُمْرَهُ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَبِالضِّدِّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ لَا بِأَوَّلِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨] فَثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ بِالْخَاتِمَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْخَاتِمَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِأَحَدٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ فِي الظَّاهِرِ مُنْقَادًا لِلشَّرِيعَةِ. الثَّانِي:

كَوْنُهُ فِي الْبَاطِنِ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْأَمْرَانِ وَعَرَفَ الْإِنْسَانُ حُصُولَهُمَا عَرَفَ لَا مَحَالَةَ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الِانْقِيَادُ فِي الظَّاهِرِ لِلشَّرِيعَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اسْتِغْرَاقُ الْبَاطِنِ فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَاسْتِئْنَاسُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ اسْتِقْرَارٌ مَعَ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَدَاخُلَ «١» الْأَغْلَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ غَامِضَةُ وَالْقَضَاءُ عَسِرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، وَالْجَزْمُ غُرُورٌ. وَدُونَ الْوُصُولِ إِلَى عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَسْتَارٌ، تَارَةً مِنَ النِّيرَانِ، وَأُخْرَى مِنَ الْأَنْوَارِ، وَاللَّهُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأَسْرَارِ، وَلْنَرْجِعْ إلى التفسير.

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٥]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ جُمْلَةً مَنْ وَاقِعَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ كَانُوا جَمَاعَةً مِنَ الشُّبَّانِ آمَنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِمْ: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ


(١) في الأصل تداخل هكذا ولعل الصواب مداخل لأنه وصفها فيما بعد بقوله كثيرة غامضة.

<<  <  ج: ص:  >  >>