لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي إِمَالَةِ الْهَاءِ وَإِمَالَةِ الْيَاءِ. وَخَامِسُهَا: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَهِيَ ضَمُّ الْهَاءِ وَفَتْحُ الْيَاءِ، وَعَنْهُ أَيْضًا فَتْحُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْيَاءِ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنِ الْحَسَنِ بِضَمِّهِمَا، فَقِيلَ لَهُ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْحَسَنِ لأنه أورد ابن جني في كتاب «المكتسب» «١» أَنَّ قِرَاءَةَ الْحَسَنِ ضَمُّ أَحَدِهِمَا وَفَتْحُ الْآخَرِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَقْدَمَ الْحَسَنُ عَلَى ضَمِّ أَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ أَلِفٌ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ كَالدَّارِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِأَنَّهَا لَا اشْتِقَاقَ لَهَا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ مُشَابِهٌ لَهَا فِي اللَّفْظِ. وَالْأَلِفُ إِذَا وَقَعَ عَيْنَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ الْغَالِبَ/ فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ فَلَمَّا تَصَوَّرَ الْحَسَنُ أَنَّ أَلِفَ الْهَاءِ وَالْيَاءِ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَاوِ وَضَمَّ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ أُخْتُ الضَّمَّةِ. وَسَادِسُهَا: هَا يَا بِإِشْمَامِهِمَا شَيْئًا مِنَ الضمة.
المسألة الثالثة: قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الْحُرُوفِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ بِأَدْنَى سَكْتَةٍ مَعَ إِظْهَارِ نُونِ الْعَيْنِ وَبَاقِي الْقُرَّاءِ يَصِلُونَ الْحُرُوفَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيُخْفُونَ النُّونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ صَادْ، ذُكِرَ بِالْإِدْغَامِ، وَعَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِالْإِظْهَارِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَذَاهِبُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَكِنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كهيعص ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمِنَ الْكَافِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ كَافٍ وَمِنَ الْهَاءِ هَادٍ وَمِنَ الْعَيْنِ عَالِمٌ وَمِنَ الصَّادِ صَادِقٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا أَنَّهُ حَمَلَ الْكَافَ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْكَرِيمِ، وَيُحْكَى أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ الْيَاءَ عَلَى الْكَرِيمِ مَرَّةً وَعَلَى الْحَكِيمِ أُخْرَى، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْيَاءِ أَنَّهُ مِنْ مُجِيرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ مِنْ عَزِيزٍ وَمِنْ عَدْلٍ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ قَوِيَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُودِعَ كِتَابَهُ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ لَا بِالْحَقِيقَةِ وَلَا بِالْمَجَازِ لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْنَا قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِنًا، وَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ دَلَالَةُ الْكَافِ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْكَرِيمِ أَوِ الْكَبِيرِ أَوْ عَلَى اسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ تَحَكُّمًا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ أصلا.
[[سورة مريم (١٩) : آية ٢]]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظَةِ ذِكْرُ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ صِيغَةُ الْمَصْدَرِ أَوِ الْمَاضِي مُخَفَّفَةً أَوْ مُشَدَّدَةً أَوِ الْأَمْرُ، أَمَّا صِيغَةُ الْمَصْدَرِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ كَسْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَلَى الْإِضَافَةِ ثُمَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: نَصْبُ الدَّالِ مِنْ عَبْدَهُ وَالْهَمْزَةِ مِنْ زَكَرِيَّاءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَثَانِيهَا: بِرَفْعِهِمَا وَالْمَعْنَى وَتِلْكَ الرَّحْمَةُ هِيَ عَبْدُهُ زَكَرِيَّاءُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ.
وَثَالِثُهَا: بِنَصْبِ الْأَوَّلِ وَبِرَفْعِ الثَّانِي وَالْمَعْنَى رَحْمَةُ رَبِّكِ عَبَدَهُ وَهُوَ زَكَرِيَّاءُ. وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي بِالتَّشْدِيدِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نَصْبِ رَحْمَةٍ. وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْبَاءِ مِنْ رَبِّكَ وَالْمَعْنَى ذَكَرَ رَبُّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ. وَثَانِيهَا: نَصْبُ الْبَاءِ مِنْ رَبِّكَ وَالرَّفْعُ فِي عَبْدِهِ زَكَرِيَّاءَ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ لِلْكَلْبِيِّ، وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ رَحْمَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ على تقدير
(١) الكتاب المشهور لابن جني اسمه «المحتسب» فلعل له كتابا آخر اسمه «المكتسب» أو لعله تحريف له.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute