للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْوَفَاءِ لَكَانَ الْمَحْبُوبُ هُوَ النَّصِيبَ وَالْحَظَّ وَمُوصِلُ النَّصِيبِ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْعَرَضِ، فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبْرُ لَا لِأَجْلِ الرِّضَا بِقَضَاءِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بَلْ كَانَ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَذَلِكَ الصَّبْرُ لَا يَكُونُ جَمِيلًا، وَالضَّابِطُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ لِطَلَبِ عُبُودِيَّةِ اللَّه تعالى كان حسنا وإلا فلا، وهاهنا يَظْهَرُ صِدْقُ مَا

رُوِيَ فِي الْأَثَرِ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَلَوْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ»

فَلْيَتَأَمَّلِ الرَّجُلُ تَأَمُّلًا شافيا، أن الذي أتى به هل الحاصل وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعُبُودِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَوْ أَفْتَوْنَا بِالشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَفْعٌ الْبَتَّةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ قَوْلَهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قَالَ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى / مَا تَصِفُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الصَّبْرِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ النَّفْسَانِيَّةَ تَدْعُوهُ إِلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَهِيَ قَوِيَّةٌ وَالدَّوَاعِي الرُّوحَانِيَّةُ تَدْعُوهُ إِلَى الصَّبْرِ وَالرِّضَا، فَكَأَنَّهُ وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إِعَانَةُ اللَّه تَعَالَى لَمْ تَحْصُلِ الْغَلَبَةُ، فَقَوْلُهُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَةِ: ٥] وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] .

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]

وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَيْفَ سَهَّلَ السَّبِيلَ فِي خَلَاصِ يُوسُفَ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ، فَقَالَ: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ يَعْنِي رُفْقَةً تَسِيرُ لِلسَّفَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتْ سَيَّارَةٌ أَيْ قَوْمٌ يَسِيرُونَ من مدين إلى مصر فأخطئوا الطَّرِيقَ فَانْطَلَقُوا يَهِيمُونَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَهَبَطُوا عَلَى أَرْضٍ فِيهَا جُبُّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرَانِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلرُّعَاةِ، وَقِيلَ: كَانَ مَاؤُهُ مِلْحًا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ الْخُزَاعِيُّ لِيَطْلُبَ لَهُمُ الْمَاءَ، وَالْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ لِيَسْتَقِيَ الْقَوْمُ فَأَدْلى دَلْوَهُ وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا فِي الْبِئْرِ وَدَلَّاهَا إِذَا نَزَعَهَا مِنَ الْبِئْرِ يُقَالُ: أَدْلَى يُدْلِي إِدْلَاءً إِذَا أَرْسَلَ وَدَلَا يَدْلُو دَلْوًا إِذَا جَذَبَ وَأَخْرَجَ، وَالدَّلْوُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ دِلَاءٌ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وهاهنا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَظَهَرَ يُوسُفُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا أَدْلَى الْوَارِدُ دَلْوَهُ وَكَانَ يُوسُفُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ تَعَلَّقَ بِالْحَبْلِ فَنَظَرَ الْوَارِدُ إليه ورأى حسنه نادى، فَقَالَ: يَا بُشْرَى. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بُشْرى بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَبِسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَا بُشْرَايَ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: يا بُشْرى قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: يَا عَجَبًا مِنْ كَذَا وقوله: يا أَسَفى / عَلى يُوسُفَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى النِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُجِيبُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ فَإِذَا قُلْتَ: يَا عَجَبَاهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ اعْجَبُوا. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>