للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ، فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا لِلتَّدَاوِي، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التِّرْيَاقَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ لُحُومَ الْأَفَاعِي مُسْتَطَابٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَةِ: ٤] غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ وَلَكِنْ لَا يُقْدَحُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً الثَّانِي: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا عَفَا عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنَ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَالشَّافِعِيُّ عَفَا عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ لِلْحَاجَةِ فَلِمَ لَا يَحْكُمَانِ بِالْعَفْوِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْحَاجَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا هاهنا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَرَّمَهُ وَاحْتَجَّ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ»

وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، وَالنِّزَاعُ لَيْسَ إِلَّا فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ التَّدَاوِي إِنِ انْتَهَتْ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الخامسة:

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٤]]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)

[الحكم الثاني]

اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، كَانُوا يَأْخُذُونَ/ مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الْهَدَايَا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافُوا انْقِطَاعَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، فَكَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْرَ شَرَائِعِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ أَيَّ شَيْءٍ كَانُوا يَكْتُمُونَ؟ فَقِيلَ: كَانُوا يَكْتُمُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ وَالْبِشَارَةَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَتَمُوا الْأَحْكَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٤] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْكِتْمَانِ، فَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحَرِّفِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُمَا كَانَا كِتَابَيْنِ بَلَغَا فِي الشُّهْرَةِ وَالتَّوَاتُرِ إِلَى حَيْثُ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيهِمَا، بَلْ كَانُوا يَكْتُمُونَ التَّأْوِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةً، وَيَصْرِفُونَهَا عَنْ مَحَامِلِهَا الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِنَايَةُ فِي: بِهِ، يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْكِتْمَانِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْمَكْتُومِ.