للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي دُخُولِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ بَعْضَ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنَّ السَّيِّئَاتِ كُلَّهَا لَا تُكَفَّرُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ بَعْضُهَا ثُمَّ أَبْهَمَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ لِأَنَّ بَيَانَهُ كَالْإِغْوَاءِ بِارْتِكَابِهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُكَفَّرَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ/ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِبْهَامِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (مِنْ) بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ، وَالْمَعْنَى: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، كَمَا تَقُولُ:

ضَرَبْتُكَ مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [محمد: ١٥] وَالتَّقْدِيرُ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ جَمِيعَ سَيِّئَاتِكُمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ الْأَصَحُّ.

ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا تُرِيدُونَ بِالصَّدَقَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُكُمْ فِي السِّرِّ، فَمَا مَعْنَى الْإِبْدَاءِ، فَكَأَنَّهُمْ نُدِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى الْإِخْفَاءِ ليكون أبعد من الرياء.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]]

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)

[في قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ] هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ جَاءَتْ نُتَيْلَةُ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهَا تَسْأَلُهَا، وَكَذَلِكَ جَدَّتُهَا وَهُمَا مُشْرِكَتَانِ، أَتَيَا أَسْمَاءَ يَسْأَلَانِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ لَا أُعْطِيكُمَا حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكُمَا لَسْتُمَا عَلَى دِينِي، فَاسْتَأْمَرَتْهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ قَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَكَانُوا لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ مَا لَمْ تُسْلِمُوا لَا نُعْطِيكُمْ شَيْئًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُمُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا تُوقِفْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٨] فَرَخَّصَ فِي صِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْفِ: ٦] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٣] وَقَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: ٩٩] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٨] فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَمُبَيِّنًا لِلدَّلَائِلِ، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُهْتَدِينَ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْكَ وَلَا بِكَ، فالهدى هاهنا بِمَعْنَى الِاهْتِدَاءِ، فَسَوَاءٌ اهْتَدَوْا أَوْ لَمْ يَهْتَدُوا فَلَا تَقْطَعْ مَعُونَتَكَ وَبِرَّكَ وَصَدَقَتَكَ عَنْهُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِوَاسِطَةِ أَنْ تُوقِفَ صَدَقَتَكَ عَنْهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْإِيمَانُ