للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَقَعَ التَّحَدِّي أَيْضًا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: ١٣] وَوَقَعَ التَّحَدِّي بِالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] وَوَقَعَ التَّحَدِّي بِكَلَامٍ مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطَّوْرِ: ٣٤] فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحَدِّيَ كَمَا شَرَحْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أَنَّا أَخْبَرْنَاهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ كَيْفَ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَشَرَحْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِرَارًا وَأَطْوَارًا ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا الْبَيَانِ بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَنَفَى الشُّرَكَاءَ وَالْأَضْدَادَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَذَكَرَ شُبَهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَأَجَابَ عَنْهَا ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِسَمَاعِهَا بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ النُّبُوَّةِ ثم قال تعالى:

يُرِيدُ [أَبَى] أَكْثَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَّا كُفُوراً أَيْ جُحُودًا لِلْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا لَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، قُلْنَا لَفْظُ أَبَى يُفِيدُ النَّفْيَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلَمْ يرضوا إلا كفورا.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]

وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)

[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلى قوله كِتاباً نَقْرَؤُهُ] [المسألة الأولى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا وَظَهَرَ هَذَا الْمُعْجِزِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِينَئِذٍ تَمَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ نَبِيًّا صَادِقًا تَوَاتُرُ الْمُعْجِزَاتِ الْكَثِيرَةِ وَتَوَالِيهَا لِأَنَّا لَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى مَقْطَعٍ وَكُلَّمَا أَتَى الرَّسُولُ بِمُعْجِزٍ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مُعْجِزًا آخَرَ وَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ عِنَادُ الْمُعَانِدِينَ وَتَغَلُّبُ الْجَاهِلِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا الْتَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ كَمَا

حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ أَرْسَلُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُمْ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَرْضَ مَكَّةَ ضَيِّقَةٌ فَسَيِّرْ جِبَالَهَا لِنَنْتَفِعَ فِيهَا وَفَجِّرْ لَنَا فِيهَا يَنْبُوعًا أَيْ نَهْرًا وَعُيُونًا نَزْرَعُ فِيهَا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ أَوْ يَكُونُ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَيْ مِنْ ذَهَبٍ فَيُغْنِيكَ عَنَّا فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِيَ قَوْمَكَ بِمَا يَسْأَلُونَكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>