المسألة الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ تَذَكُّرَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فِعْلِ/ اللَّهِ لَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، وَالدَّلِيلُ عليه هو أن التذكر عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمُتَذَكَّرِ فَحَالَ الطَّلَبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ شُعُورٌ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ بِهِ شُعُورٌ. فَإِنْ كَانَ لَهُ شُعُورٌ فَذَلِكَ الذِّكْرُ حَاصِلٌ، وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ تَحْصِيلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ شُعُورٌ فَكَيْفَ يَطْلُبُهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ تَوْجِيهَ الطَّلَبِ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ حَالَ مَا لَا يَكُونُ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَصَوَّرًا مُحَالٌ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْوَعْظِ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّذَكُّرُ فِعْلًا لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ مِنْهُ تَحْصِيلَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ منه ذلك. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، فَبَدَأَ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِعَهْدِ اللَّهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَهْدُ اللَّهِ هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: ١٠] أَيْ وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، أَيْ بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَهْدٍ يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْوَعْدُ مِنَ الْعَهْدِ، وَقَالَ/ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مَنْ عاهدته ف بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْجِهَادُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. الرَّابِعُ: عَهْدُ اللَّهِ هُوَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّلَاحُ فِي خِلَافِهِ،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ» .
الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي الْعَهْدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَوْكَدُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِهِ مِنَ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَرُبَّمَا نَدَبَ فِيهِ خِلَافَ الْوَفَاءِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْعُهُودِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذا عاهَدْتُمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُعْتَبَرًا وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِيمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تَكْرَارًا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالْمَنْعَ مِنَ النَّقْضِ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّرْكِ إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ عَامٌّ فَدَخَلَ تَحْتَهُ الْيَمِينُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خص اليمين بالذر تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِوُجُوبِ الرِّعَايَةِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى مَا