فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا الَّذِي ظَلَمْتُمُونِي عَلَى أَعْظَمِ الْوُجُوهِ واللَّه تَعَالَى أَوْصَلَنِي إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ، أَنَا ذَلِكَ الْعَاجِزُ الَّذِي قَصَدْتُمْ قَتْلَهُ وَإِلْقَاءَهُ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ صِرْتُ كَمَا تَرَوْنَ، وَلِهَذَا قَالَ: وَهذا أَخِي مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا أَيْضًا كَانَ مَظْلُومًا كَمَا كُنْتُ ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى كَمَا تَرَوْنَ وَقَوْلُهُ:
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِكُلِّ عِزٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَالَ آخَرُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَّقِ مَعَاصِيَ اللَّه وَيَصْبِرْ عَلَى أَذَى النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّه لَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ فَوَضَعَ الْمُحْسِنِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَّقِينَ. وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا وَلَوْ أنه قدم عَلَى مَا يَقُولُهُ الْحَشْوِيَّةُ فِي حَقِّ زُلَيْخَا لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ كَذِبًا مِنْهُ وَذِكْرُ الْكَذِبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي يُؤْمِنُ فِيهِ الْكَافِرُ وَيَتُوبُ فِيهِ الْعَاصِي لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ كثير في طَرِيقِ قُنْبُلٍ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ وَوَجْهُهُ أَنْ يُجْعَلَ «مَنْ» بِمَنْزِلَةِ الَّذِي فَلَا يُوجِبُ الْجَزْمَ وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَصْبِرْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الرَّفْعُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ كَمَا يُخَفَّفُ فِي عَضْدٍ وَشَمْعٍ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الياء في الحالين.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
اعْلَمْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ لِإِخْوَتِهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّقِ الْمَعَاصِيَ وَيَصْبِرْ عَلَى أَذَى النَّاسِ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّه صَدَّقُوهُ فِيهِ، وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: آثَرَكَ إِيثَارًا، أَيْ فَضَّلَكَ اللَّه، وَفُلَانٌ آثَرَ عَبْدَ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ يُؤْثِرُهُ بِفَضْلِهِ وَصِلَتِهِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ فَضَّلَكَ اللَّه عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ/ وَالْحِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَالْحُسْنِ وَالْمُلْكِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِخْوَتَهُ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَنَاصِبِ الَّتِي تَكُونُ مُغَايِرَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلَوْ شَارَكُوهُ فِي مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ لَمَا قَالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ زَائِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْمُلْكِ وَأَحْوَالِ الدُّنْيَا وَإِنْ شَارَكُوهُ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا لَا يُعْبَأُ بِهَا فِي جَنْبِ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قِيلَ الْخَاطِئُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِالْخَطِيئَةِ عَمْدًا وَفُرِّقَ بَيْنَ الْخَاطِئِ وَالْمُخْطِئِ، فَلِهَذَا الْفَرْقِ يُقَالُ لِمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُصِيبُ إِنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ خَاطِئٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَذَرُوا مِنْهُ هُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ وَتَبْعِيدِهِ عَنِ الْبَيْتِ وَالْأَبِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ ذَنْبًا فَلَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَذَرُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَخْطَئُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُظْهِرُوا لِأَبِيهِمْ مَا فَعَلُوهُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَهَذَا الْكَلَامُ ضَعِيفٌ من وجوه:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute