للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْوَجْهُ فِي حُسْنِ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّهُ فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلَ الْخِطَابَ عَلَى لَفْظِ الْمُخَاطَبِ الْحَاضِرِ لِحُضُورِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٦] وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ فَلِأَجْلِ مُوَافَقَةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الغيبة.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى رَسُولَهُ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَبِمُشَاهَدَةِ آثَارِهِمْ، سَلَّاهُ أَيْضًا بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ مَعَ قُوَّةِ مُعْجِزَاتِهِ بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَكَذَّبُوهُ وَكَابَرُوهُ، وَقَالُوا هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا جَاءَهُمْ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَهَالَاتِ فَالْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا كَذَّابًا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ يَشْهَدُ كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ الْبَتَّةَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ غَيْرُ الْقَتْلِ الَّذِي وَقَعَ فِي وَقْتِ وِلَادَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ بِوِلَادَةِ عَدُوٍّ لَهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَاءَهُ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةَ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِئَلَّا يَنْشَئُوا عَلَى دِينِ مُوسَى فَيَقْوَى بِهِمْ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَسْعَوْنَ فِيهِ مِنْ مُكَايَدَةِ مُوسَى وَمُكَايَدَةِ مَنْ آمَنِ مَعَهُ يَبْطُلُ، لِأَنَّ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا ممسك لها النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ قَبَائِحَ أَفْعَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَهَذَا الْكَلَامُ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْلِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ.

وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِنْ قَتْلِهِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ بِقَلْبِهِ كَوْنَ مُوسَى صَادِقًا، فَيَأْتِي بِوُجُوهِ الْحِيَلِ فِي مَنْعِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَتْلِهِ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ لَا تَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ سَاحِرٌ ضَعِيفٌ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَغْلِبَ سَحَرَتَكَ، وَإِنْ قَتَلْتَهُ أَدْخَلْتَ الشُّبْهَةَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ مُحِقًّا وعجزوا عن

<<  <  ج: ص:  >  >>