للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمَّا كَانَتْ كَثْرَةُ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ تِلْكَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ حَتَّى اللَّمْحَةُ وَاللَّحْظَةُ وَالْخُطُورُ بِالْبَالِ وَالِالْتِفَاتُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَثَرًا مَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي النَّفْسِ فَهَذَا هُوَ الْحِسَابُ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ يَتَبَيَّنُ لِلْإِنْسَانِ صِدْقُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] .

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالسُّعَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَفِي الْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُمُ الْحُسْنَى.

وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِرَبِّهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ، وَالْمُرَادُ بِسُوءِ الْحِسَابِ أَنَّهُمْ أَحَبُّوا الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْمَوْلَى فَلَمَّا مَاتُوا بَقُوا مَحْرُومِينَ عَنْ مَعْشُوقِهِمُ الَّذِي هُوَ الدُّنْيَا وَبَقُوا مَحْرُومِينَ عَنِ الْفَوْزِ بِخِدْمَةِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى.

وَالنوع الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ/ بِخِدْمَةِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى عَاكِفِينَ عَلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتُوا فَارَقُوا مَعْشُوقَهُمْ فَيَحْتَرِقُونَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ يَجْبُرُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ، فلذلك قال: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْمَأْوَى فَقَالَ: وَبِئْسَ الْمِهادُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ.

ثم قال تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ كَالْبَصِيرِ، وَالْجَاهِلَ بِهِ كَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ، لِأَنَّ الْأَعْمَى إِذَا أَخَذَ يَمْشِي مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ وَفِي الْمَهَالِكِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّافِعَةِ، أَمَّا الْبَصِيرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ آمِنًا مِنَ الْهَلَاكِ والإهلاك.

ثم قال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إِلَّا أَرْبَابُ الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَنْ كُلِّ صُورَةٍ مَعْنَاهَا، وَيَأْخُذُونَ مَنْ كُلِّ قِشْرَةٍ لُبَابَهَا وَيَعْبُرُونَ بِظَاهِرِ كُلِّ حَدِيثٍ إِلَى سِرِّهِ وَلُبَابِهِ.

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صِفَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: ١٩] .

<<  <  ج: ص:  >  >>