للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا وَأَنْشَدَ:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُكْذِبُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ حَكَوْا أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ لَمَّا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو فَهَلْ يُسَمَّى اللَّهُ مُكَذِّبَ نَفْسِهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: فَقَدْ سَقَطَتْ حُجَّتُكَ، قَالُوا: فَانْقَطَعَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ.

وَعِنْدِي أَنَّهُ كَانَ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَيَقُولُ: إِنَّكَ قِسْتَ الْوَعِيدَ عَلَى الْوَعْدِ وَأَنَا إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعْدَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَالْوَعِيدَ حَقٌّ لَهُ، وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّ غَيْرِهِ فَذَلِكَ هُوَ اللُّؤْمُ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَطَلَ قِيَاسُكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الشِّعْرَ لِإِيضَاحِ هَذَا الْفَرْقِ، فَأَمَّا قَوْلُكَ: لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَصَارَ كَاذِبًا وَمُكَذِّبًا نَفْسَهُ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْوَعِيدُ ثَابِتًا جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَعِنْدِي جَمِيعُ الْوَعِيدَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ وَاللَّهُ أعلم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠]]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءَهُمْ وَتَضَرُّعَهُمْ، حَكَى كَيْفِيَّةَ حَالِ الْكَافِرِينَ وَشَدِيدَ عِقَابِهِمْ، فَهَذَا هُوَ وجه النظم، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِمْ وَفْدُ نَجْرَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رُوِّينَا فِي بَعْضِ قِصَّتِهِمْ أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَالَ لِأَخِيهِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَلَكِنَّنِي إِنْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ أَخَذَ مُلُوكُ الرُّومِ مِنِّي مَا أَعْطَوْنِي مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ الْعَذَابِ هُوَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ كُلُّ مَا كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ/ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْءَ عِنْدَ الْخُطُوبِ وَالنَّوَائِبِ فِي الدُّنْيَا يَفْزَعُ إِلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَهُمَا أَقْرَبُ الْأُمُورِ الَّتِي يَفْزَعُ الْمَرْءُ إِلَيْهَا فِي دَفْعِ الْخُطُوبِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ صِفَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُخَالِفَةٌ لِصِفَةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ إِذَا لَمْ يَتَأَتَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَمَا عَدَاهُ بِالتَّعَذُّرِ أَوْلَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: ٨٨، ٨٩] وَقَوْلُهُ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً [الْكَهْفِ: ٤٦] وَقَوْلُهُ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠] وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ كَمَالِ الْعَذَابِ، فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ الْمُؤْلِمَةُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ