للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَبِّهِ الْآيَةَ الْكُبْرَى، ثَانِيهِمَا: صِفَةُ آيَاتِ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولُ رَأَى مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ رَأَى مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى آيَةً أَوْ شَيْئًا ثم قال تعالى:

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٠]

أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠)

لَمَّا قَرَّرَ الرِّسَالَةَ ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَمَنْعُ الْخَلْقِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

أَفَرَأَيْتُمُ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِنَفْسِ الْقَوْلِ كَمَا أَنَّ ضَعِيفًا إِذَا ادَّعَى الْمُلْكَ ثُمَّ رَآهُ الْعُقَلَاءُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّا يَدَّعِيهِ يَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي يَدَّعِي الْمُلْكَ، مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَدِلِّينَ بِدَلِيلٍ لِظُهُورِ أَمْرِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ:

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أَيْ كَمَا هُمَا فَكَيْفَ تُشْرِكُونَهُمَا بِاللَّهِ، وَالتَّاءُ فِي اللَّاتِ تَاءُ تَأْنِيثٍ كَمَا فِي الْمَنَاةِ لَكِنَّهَا تُكْتَبُ مُطَوَّلَةً لِئَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهَا فَتَصِيرَ هَاءً فَيَشْتَبِهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْهَاءَ فِي اللَّهِ أَصْلِيَّةٌ لَيْسَتْ تَاءَ تَأْنِيثٍ وُقِفَ عَلَيْهَا فَانْقَلَبَتْ هَاءً، وَهِيَ صَنَمٌ كَانَتْ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هِيَ فَعْلَةٌ مِنْ لَوَى يَلْوِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَا قَالَ فَأَصْلُهُ لَوْيَةٌ أُسْكِنَتِ الْيَاءُ/ وَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَبَقِيَتْ لَوْةٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِفَتْحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَتْ لَاتَ، وَقُرِئَ اللَّاتُّ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ لَتَّ، قِيلَ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رَجُلٍ كَانَ يَلُتُّ بِالسَّمْنِ الطَّعَامَ وَيُطْعِمُ النَّاسَ فَعُبِدَ وَاتُّخِذَ عَلَى صُورَتِهِ وَثَنٌ وَسَمُّوهُ بِاللَّاتِ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّاتُ ذَكَرٌ، وَأَمَّا الْعُزَّى فَتَأْنِيثُ الْأَعَزِّ وَهِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ تُعْبَدُ،

فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَتْ مِنْهَا شَيْطَانَةٌ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ مَنْشُورَةُ الشَّعْرِ تَضْرِبُ رَأْسَهَا وَتَدْعُوا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فَقَتَلَهَا خَالِدٌ وَهُوَ يَقُولُ:

يَا عُزُّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ

وَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى وَفَعَلَ فَقَالَ تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا،

وَأَمَّا مَنَاةُ فَهِيَ فَعْلَةٌ صَنَمُ الصَّفَا، وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآخَرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فَلَا يُقَالُ رَأَيْتُ امْرَأَةً وَرَجُلًا آخَرَ، وَيُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَجُلًا آخَرَ لِاشْتِرَاكِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الرِّجَالِ وَهَاهُنَا قَوْلُهُ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى يَقْتَضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنْ تَكُونَ الْعُزَّى ثَالِثَةً أُولَى وَمَنَاةُ ثَالِثَةً أُخْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:

الْأُخْرَى كَمَا هِيَ تُسْتَعْمَلُ لِلذَّمِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ [الْأَعْرَافِ: ٣٩] أَيْ لِمُتَأَخِّرَتِهِمْ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَيُقَالُ لَهُمُ الْأَذْنَابُ لِتَأَخُّرِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ فَهِيَ صِفَةُ ذَمٍّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ الذَّلِيلَةُ، وَنَقُولُ عَلَى هَذَا لِلْأَصْنَامِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ وَثَنًا عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ وَالْعُزَّى صَوُرَتُهَا صُورَةُ نَبَاتٍ وَمَنَاةُ صَوُرَتُهَا صُورَةُ صَخْرَةٍ هِيَ جَمَادٌ، فَالْآدَمِيُّ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادِ، فَالْجَمَادُ مُتَأَخِّرٌ وَالْمَنَاةُ جَمَادٌ فَهِيَ فِي الْأُخْرَيَاتِ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْجَوَابُ الثَّانِي: فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الْمَعْبُودَيْنِ بِالْبَاطِلِ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْمَعْبُودَةَ الْأُخْرَى وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْأَصْنَامَ كَانَ فِيهَا كَثْرَةٌ وَاللَّاتُ وَالْعُزَّى إِذَا أُخِذَتَا مُتَقَدِّمَتَيْنِ فَكُلُّ صَنَمَةٍ تُوجَدُ فَهِيَ ثَالِثَةٌ، فَهُنَاكَ ثَوَالِثُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا ثَوَالِثُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ أُخْرَى، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ يَوْمًا وَيَوْمًا وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَمَنَاةُ الْأُخْرَى الثَّالِثَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْأُخْرَى تُسْتَعْمَلُ لِمَوْهُومٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَلَا مَذْكُورًا يَقُولُ من يكثر

<<  <  ج: ص:  >  >>