للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَّهَمِينَ بِسَبَبِ وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَالَغُوا فِي إِزَالَةِ التُّهْمَةِ عن أنفسهم فقالوا:

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْأَكْثَرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ مِصْرُ وَقَالَ قَوْمٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ قَرْيَةٌ عَلَى بَابِ مِصْرَ جَرَى فِيهَا حَدِيثُ السَّرِقَةِ وَالتَّفْتِيشِ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْمُضَافُ لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَجَازِ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَدَافَعُ جَوَازِ هَذَا فِي اللُّغَةِ كَدَافِعِ الضَّرُورِيَّاتِ وَجَاحِدِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْمَعْنَى: اسْأَلِ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ وَالْجِدَارَ وَالْحِيطَانَ فَإِنَّهَا تُجِيبُكَ وَتَذْكُرُ لَكَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّكَ مِنْ أَكَابِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّه فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْطِقَ اللَّه هَذِهِ الجمادات معجزة لك حتى تخبر بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا تَامًّا كَامِلًا فَقَدْ يُقَالُ فِيهِ، سَلِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي مَا بَقِيَ لِلشَّكِّ فِيهِ مَجَالٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ قَدْ صَحِبَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ فَقَالُوا: سَلْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ قَالُوا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ يَعْنِي سَوَاءٌ نَسَبْتَنَا إِلَى التُّهْمَةِ أَوْ لَمْ تَنْسِبْنَا إِلَيْهَا فَنَحْنُ صَادِقُونَ، وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ أَنْ يُثْبِتُوا صِدْقَ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ فَقَدْ يَقُولُ بَعْدَهُ وَأَنَا صَادِقٌ فِي ذَلِكَ يَعْنِي فَتَأَمَّلْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة.

[[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٣]]

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)

اعْلَمْ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ مِنْ أَبْنَائِهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا كَمَا فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ فَقَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: ١٨] وقال هاهنا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً لَيْسَ الْمُرَادُ منه هاهنا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي وَاقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً

لَكِنَّهُ عَنَى سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ إِخْرَاجَ بِنْيَامِينَ عَنِّي وَالْمَصِيرَ بِهِ إِلَى مِصْرَ طَلَبًا لِلْمَنْفَعَةِ فَعَادَ مِنْ ذَلِكَ شَرٌّ وَضَرَرٌ وَأَلْحَحْتُمْ عَلَيَّ فِي إِرْسَالِهِ مَعَكُمْ وَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ قَضَاءَ اللَّه إِنَّمَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ تَقْدِيرِكُمْ وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا خَيَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنَّهُ سَرَقَ وَمَا سَرَقَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

قِيلَ إِنَّ رُوبِيلَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمِصْرَ أَمَرَهُ الْمَلِكُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ إِخْوَتِهِ فَقَالَ اتْرُكُونِي وَإِلَّا صِحْتُ صَيْحَةً لَا تَبْقَى بِمِصْرَ امْرَأَةٌ حَامِلٌ إِلَّا وَتَضَعُ حَمْلَهَا فَقَالَ يُوسُفُ دَعُوهُ وَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرُوهُ بِالْوَاقِعَةِ بَكَى وَقَالَ: يَا بَنِيَّ لَا تَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِي مَرَّةً إِلَّا وَنَقَصَ بَعْضُكُمْ، ذَهَبْتُمْ مَرَّةً فَنَقَصَ يُوسُفُ، وَفِي الثَّانِيَةِ نَقَصَ شَمْعُونُ، وَفِي هَذِهِ الثَّالِثَةِ نَقَصَ رُوبِيلُ وَبِنْيَامِينُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا

وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا طَالَ حُزْنُهُ وَبَلَاؤُهُ وَمِحْنَتُهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>