للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا سَأَلَ عِيسَى أَنَّكَ هَلْ قُلْتَ كَذَا لَمْ يَقُلْ عِيسَى بِأَنِّي قُلْتُ أَوْ مَا قُلْتُ بَلْ قَالَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ يُنْتِجُ أَنَّهُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَمْ لَا فَلَمْ يَقُلْ بِأَنِّي مَا قُلْتُ هَذَا الْكَلَامَ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى دَعْوَى الطَّهَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْخُضُوعِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَنِّي قُلْتُهُ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِالْكُلِّ.

فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْأَدَبِ وَفِي إِظْهَارِ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَتَفْوِيضِ الْأُمُورِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ عِبَارَاتِ تَعْلَمُ مَا أُخْفِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِي وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ، وَلَا أَعْلَمُ مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: النَّفْسُ هُوَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْسَ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّاتِ، يُقَالُ نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالثَّانِي:

أَنَّ الْمُرَادَ تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وَقَوْلَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ

[[سورة المائدة (٥) : آية ١١٧]]

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَنْ مُفَسِّرَةٌ وَالْمُفَسَّرُ هُوَ الْهَاءُ فِي بِهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا قَوْلًا أَمَرْتَنِي بِهِ وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ أَنْ أَقُولَ لَهُمْ: اعْبُدُوا اللَّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ الْأَمْرِ، نُزُولًا عَلَى مُوجِبِ الْأَدَبِ الْحَسَنِ، لِئَلَّا يَجْعَلَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ آمِرَيْنِ مَعًا، وَدَلَّ عَلَى الْأَصْلِ بِذِكْرِ أَنِ الْمُفَسِّرَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ كُنْتُ أَشْهَدُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ مَا دُمْتُ مُقِيمًا فِيهِمْ.

فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ، وَفَاةُ الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ، مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٥] .

كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَافِظُ عَلَيْهِمُ المراقب لأحوالهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>