للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة يس (٣٦) : آية ٢٣]]

أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لِيُتِمَّ التَّوْحِيدَ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ إِشَارَةً إِلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَقَالَ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ إِشَارَةً إِلَى نَفْيِ غَيْرِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا لِطَائِفُ الْأُولَى: ذِكْرُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ مَعْنَى وُضُوحِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ مَثَلًا لَا أَتَّخِذُ يَصِحُّ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ لَا تَتَّخِذُ فَيَسْأَلُهُ عَنِ السَّبَبِ، فَإِذَا قَالَ: أَأَتَّخِذُ يَكُونُ كَلَامُهُ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ اسْتَشَرْتُكَ فَدُلَّنِي وَالْمُسْتَشَارُ يَتَفَكَّرُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ تَفَكَّرْ فِي الْأَمْرِ تفهم من غير إخبار مني الثانية: قَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ وَهِيَ لَطِيفَةٌ عَجِيبَةٌ: وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ بقوله: الَّذِي فَطَرَنِي [يس: ٢٢] بَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَتُهُ فإن عبد غَيَّرَ اللَّهَ وَجَبَ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ مُشَارِكٍ لِلْمَعْبُودِ الَّذِي اتُّخِذَ غَيْرَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مُحْتَاجٌ مُفْتَقِرٌ حَادِثٌ، فَلَوْ قَالَ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً لَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ إِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرَ الَّذِي فَطَرَكَ، وَيَلْزَمُكَ عَقْلًا أَنْ تَتَّخِذَ آلِهَةً لَا حَصْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ إِلَهُكَ رَبَّكَ وَخَالِقَكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّخِذَ آلِهَةً الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَأَتَّخِذُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ لَا يَكُونُ إِلَهً، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً [الْجِنِّ: ٣] وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْإِسْرَاءِ: ١١١] لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ حَقِيقَةً وَلَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا النَّصَارَى قَالُوا: تَبَنَّى اللَّهُ عِيسَى وَسَمَّاهُ وَلَدًا فَقَالَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفُرْقَانِ: ٢] وَلَا يُقَالُ قال الله تعالى: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٩] نَقُولُ ذَلِكَ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ قَلِيلَ الصَّبْرِ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ أَسْبَابَ الدُّنْيَا وَيَقُولَ إِنِّي أَتَوَكَّلُ فَلَا يَحْسُنُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِأَمْرٍ أَصْلًا وَيَتْرُكَ أَطْفَالَهُ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ وَلَا يُوصِلَ إِلَى أَهْلِهِ نَفَقَتَهُمْ وَيَجْلِسَ فِي مَسْجِدٍ وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَطَاءِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِذَا قَوِيَ بِالْعِبَادَةِ قَلْبُهُ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ بِجَمِيعِ قَلْبِهِ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابَهَا وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ، فَقَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: أَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ وَعَرَفْتَ اللَّهَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَتَيَقَّنْتَ أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ يُطْلَبُ لِقَضَاءِ/ الْحَوَائِجِ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَفَوِّضْ جَمِيعَ أُمُورِكَ إِلَيْهِ فَقَدِ ارْتَقَيْتَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ وَكُنْتَ مِنْ قَبْلُ تَتَّجِرُ فِي الْحَلَالِ ومعنى قوله: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَالْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَأَتَّخِذُ آلِهَةً غَيْرَ مُغْنِيَةٍ عِنْدَ إِرَادَةِ الرَّحْمَنِ بِي ضُرًّا وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَتَّخِذُ من دونه آلهة.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضرا، وكذلك قال تعالى:

إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ [الزُّمَرِ: ٣٨] وَلَمْ يَقُلْ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِي ضُرًّا، نَقُولُ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِحَرْفٍ كَاللَّازِمِ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ فِي قَوْلِهِمْ ذَهَبَ بِهِ وَخَرَجَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْبَلِيغَ يَجْعَلُ الْمَفْعُولَ بِغَيْرِ حَرْفٍ مَا هُوَ أَوْلَى بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عليه ويجعل الآخر مفعولا بِحَرْفٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَثَلًا؟ كَيْفَ حَالُ فُلَانٍ: يَقُولُ اخْتَصَّهُ الْمَلِكُ بِالْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ فَإِذَا قَالَ كَيْفَ كَرَامَةُ الْمَلِكِ؟ يَقُولُ: اخْتَصَّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>