للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْآيَةِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُؤَيِّدَ قَوْلَ صَاحِبِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ مِثْلِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرًا بِسَبَبِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ قُلِ الْمُنْزِلُ لِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ وَأَيْضًا إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي حَاوَلَ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ يَقُولُ مَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْحَيَاةَ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَمَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَقْلَ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَمَنِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْحَدَقَةِ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَفِي الصِّمَاخِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ نَفْسَهُ يَقُولُ اللَّهَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَالْبَيِّنَةُ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا فَسَوَاءٌ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِهِ أَوْ لَمْ يُقِرَّ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ فَكَذَا هَاهُنَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَقَمْتَ الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار وهذا الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مَذْكُورٌ لِأَجْلِ التَّهْدِيدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْمُقَاتَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ الْآيَةِ/ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْمُقَاتَلَةِ، رَافِعًا لِشَيْءٍ مِنْ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِيهِ. واللَّه أَعْلَمُ.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]]

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ بِالدَّلِيلِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّه، أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ وَتَفْسِيرُ الكتاب قدم تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ.

الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهَا مِنْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفَصَاحَةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إِنْزَالَهُ بِالْوَحْيِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُبارَكٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي كِتَابٌ مُبَارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ خَيْرُهُ دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَقُولُ: الْعُلُومُ إِمَّا نَظَرِيَّةٌ، وَإِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، فَأَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَا تَرَى هَذِهِ الْعُلُومَ أَكْمَلَ وَلَا أَشْرَفَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَمَّا الْعُلُومُ الْعَمَلِيَّةُ، فَالْمَطْلُوبُ، إِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَإِمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِطَهَارَةِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَلَا تَجِدُ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ مِثْلَ مَا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ وَالْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>