للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ وَالْبَعْضِ بِأَكْثَرَ فَلَا يَعْلَمُ تَمَامَ السِّرِّ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهَا لِسَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا جَارِحِيَّةٌ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قِسْمَانِ قِسْمٌ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ وَقِسْمٌ لَمْ يُعْلَمْ، أَمَّا الْقَلْبِيَّةُ مَعَ أَنَّهَا أَبْعَدُ عَنِ الشَّكِّ وَالْجَهْلِ فَفِيهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلُهُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاعْتِقَادُ سَمْعًا كَالصِّرَاطِ الَّذِي [هُوَ] أَرَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَيَمُرُّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُوقِنُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَالْمِيزَانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَا ثِقَلَ لَهَا فِي نَظَرِ النَّاظِرِ وَكَيْفِيَّاتِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وُجُودُهَا لَمْ يُعْلَمْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ إِمْكَانُهَا وَوُقُوعُهَا مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِالسَّمْعِ وَمِنْهَا مَا عُلِمَ كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْجَارِحِيَّةِ مَا عُلِمَ مَعْنَاهُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا آتِيًا بِمَحْضِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ الْفَائِدَةَ فَرُبَّمَا يَأْتِي بِهِ لِلْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ انْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ مِنْ هاهنا ولم يعلم بِمَا فِي النَّقْلِ فَنَقَلَهَا وَلَوْ قَالَ انْقُلْهَا فَإِنَّ تَحْتَهَا كَنْزًا هُوَ لَكَ يَنْقُلُهَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ، إِذَا عَلِمَ هَذَا فَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الذِّكْرِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ الْمَعْبُودِ الْآمِرِ النَّاهِي فَإِذَا قَالَ: حم، يس، الم، طس عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَفْهَمُهُ أَوْ يُفَهَّمُهُ فَهُوَ يَتَلَفَّظُ بِهِ إِقَامَةً لِمَا أُمِرَ بِهِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قِيلَ فِي خُصُوصِ يس إِنَّهُ كَلَامٌ هُوَ نِدَاءٌ مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ تَصْغِيرَ إِنْسَانٍ أُنَيْسِينٌ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ الصَّدْرَ مِنْهُ وَأَخَذَ الْعَجُزَ وَقَالَ: يس أَيْ أُنَيْسِينُ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: ٣] .

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ يس إِمَّا بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ قَوْلُهُ هَذِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ يس، وَإِمَّا بِالضَّمِّ عَلَى نِدَاءِ الْمُفْرَدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَحَيْثُ، وَقُرِئَ يس إِمَّا بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى اتْلُ يس وَإِمَّا بِالْفَتْحِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ، وَقُرِئَ يس بِالْكَسْرِ كَجِيرٍ لِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَرِّ لِأَنَّ إِضْمَارَ الْجَارِّ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ فِيهِ حَرْفُ قَسَمٍ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَيْ ذِي الْحِكْمَةِ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ ذَاتِ رِضًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحِكْمَةِ فَهُوَ كَالْحَيِّ الْمُتَكَلِّمِ. وقوله تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٣]]

إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)

مُقْسَمٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكُفَّارُ أَنْكَرُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا وَالْمَطَالِبُ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْقَسَمِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِقْسَامِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ وصحح النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ

بِقَوْلِهِ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ»

ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصِيبُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ عَذَابٌ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ فكان النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَحْلِفُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْزَالِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ وَبِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ يُصِيبُهُ عَذَابٌ بَلْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْفَعَ شَأْنًا وَأَمْنَعَ مَكَانًا فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَغَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِتَمْشِيَةِ دَلِيلِهِ وَأَسْكَتَهُ يَقُولُ الْمَطْلُوبُ إِنَّكَ قَرَّرْتَ هَذَا بِقُوَّةِ جِدَالِكَ وَأَنْتَ خَبِيرٌ فِي نَفْسِكَ بِضَعْفِ مَقَالِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ وَإِنْ أَقَمْتَ عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>